يوسف عودة

 

فتح ميديا/ لبنان، أثبتت العلوم الاجتماعية عن تلازم مفهومي الثقافة والمجتمع، ولا تبنى المجتمعات إلا على حقيقتين أساسيتين الإنسان كونه كائناً اجتماعياً، والأخرى تعتمد على خصائص سلوكية في علاقات الناس وحياتهم المشتركة.

وغدت الثقافة متصلة بوجود المجتمع البشري ولا يبقى يستمر إلا بها تعطيه التميّز مرتبطة بتطور الإنسان وتؤكد صفته الإنسانية.

الشعب الفلسطيني عبر التاريخ كرسّ ثقافته عبر هوية نسيجه الاجتماعي ومكوناتها من معتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد أكتسبها عبر تطوره المتدرج، نشأ من خلالها تفاعل اجتماعي كرس ثقافتها، كانت بذرتها الأولى علاقة الإنسان الفلسطيني بأرضه، وربطت نمط سلوكه المجتمعي وحركت لديه مسألة الوعي والسير في ركب التطور الإنساني كانت ثقافته الأولى ظاهرة علاقته المميزة بأرضه وعشقه لوطنه مدافعاً عنه مستشهداً دونه ضد كل الغزوات التي تعرض لها على مراحل التاريخ، وذلك يرتبط بالمركب الثقافي لدى الشعب الفلسطيني من معتقدات وعادات وتقاليد ولعلاقته الوجدانية بالأرض، نظمت حركته وصيرورته التاريخية انسجاماً مع نمط علاقاته الاجتماعية المتقدمة عن غيرها لوفرة الخيرات المادية (زراعة- مياه) مستميتاً  في الدفاع عن وطنه ومقاتلاً شجاعاً في وجه كل الطامعين الغزاة.

وعكست ثقافته المتجلية بالروح الوطنية وفي مراحل أخرى عكست مهبط الرسالات السماوية وقدسية الأرض.

هذه التوطئة مقدمة للثقافة المميزة للشعب الفلسطيني حيث كان المبدع الأول الذي أختزن فيها تاريخه الطويل عن طريق الحكاية المتواترة والأمثال الشعبية والأغاني التراثية والأسطورة، عبّر فيها عن معاناته وأحزانه وأفراحه وأتراحه وتضحياته وصموده، كل ذلك من خلال طبيعة كل مرحلة ترسخ تجذره بالأرض وتعلقه بها بثقافة كفاحية ووجدانية تناقلته الأجيال مع مرور الزمن.

الثقافة الفلسطينية عبر قرن من الزمان طبعت بمناخها النضالي الإنساني ضد الانتداب البريطاني والغزوة الصهيونية إلى فلسطين وحيث عبّرت الثقافة الفلسطينية عن تطلعات الشعب الفلسطيني وكل أمانيه بالتحرر والاستقلال، وواكبت التفاصيل اليومية لحياة الشعب، وقد صاغ الشعراء والزجالون أشعارهم وأغانيهم الشعبية في كل المناسبات والمظاهرات والانتفاضات تلهب المشاعر وتؤجج النفوس وتحرض الشعب كأنها تعاميم سياسية ووطنية تدعو الجماهير للمواجهة المستمرة برفض الانتداب البريطاني ودسائسه وخداعه للتخلص منه ومقاومة الهجرة الصهيونية.

من هنا نرى دور الثقافة الجماعية أولاً بتشكلها وذات الملامح الخاصة أخذ الفرد مكانه الشعبي في حركة الوعي العام، ولا بد من الإشارة أن المثقفين كانوا الطليعة التي تستقرئ الحالة السياسية حيث نشطت تلك المرحلة بظهور الصحافة الفلسطينية والكتاب والشعراء وإنشاء الإذاعة الفلسطينية والأحزاب الوطنية، وهذا يشير أن المثقف الفلسطيني صاحب المبادرة الخلاقة في صناعة الوعي الجماعي المشترك لمجتمع يعيش تحت الاحتلال البريطاني ويقاوم أكبر مؤامرة دولية على الشعب الفلسطيني.

انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة حركة فتح في 1/1/1965 وتوازناً مع العمل المسلح والبندقية المقاتلة أخذ المثقف دوره النضالي في كل المواقع، واتسمت مرحلة النضال الفلسطيني بالدور المميز للمثقفين ومكانتهم في صياغة الخطاب العام فكراً وممارسة وإبراز مكانة القضية الفلسطينية عربياً ودولياً ومهماتهم الوطنية بالإعداد والتوجيه والتعبئة ومعالجة المراحل السياسية وبلورتها شعراً وقصة ورواية مسرحاً وأغنية وطنية.

ولا بد من التذكير بشعارات كل مرحلة وعلى سبيل المثال "البندقية المسيسة صانعة الانتصارات" "والبندقية التي لا تقرأ ولا تكتب قاطعة طريق". أو "الوحدة الوطنية طريقنا للنصر". حيث عجّت الساحة الفلسطينية بمئات الإصدارات من النشرات والصحف والكتب على أنواعها وكذلك مراكز الدراسات والأبحاث وغدت غذاءً يومياً للإنسان الفلسطيني ومواكبة للحدث السياسي الاجتماعي الإنساني اليومي تحليلا ودراسة وبحثاً أعطى زخماً لحركة الوعي الجماعي المشترك واستفزاز الذاكرة الشعبية ووضعها على رافعة الاستنفار الدائم.

1982 خرجت قوات الثورة الفلسطينية من لبنان بعد صمود أسطوري دام اثنين وثمانين يوماً، فقد الفلسطينيون البنية التحتية للثورة الفلسطينية وأهمها مراكز الدراسات والأبحاث وتوقفت الصحف الفلسطينية على أنواعها من الصدور وأقفلت أبواب المعرفة والتنوير والثقافة ولم يعد بالإمكان متابعة الإبداعات الفكرية والسياسية التي تؤرخ كل مرحلة، جاءت مرحلة الجفاف واختلاط الهم الخاص بالعام وتداعياتها على الواقع الفلسطيني.

بعد ثلاثين عاماً على اجتياح لبنان ومن استهدافاته كيّ الذاكرة الفلسطينية والوعي الجماعي وتحويل الثقافة الفلسطينية إلى جثة في ثلاجة الموتى أسئلة كثيرة تطرح، ماذا فعلنا لمواجهة خطر الضياع الثقافي الذي نصنعه بأيدينا أو يضيع مع الوقت؟

أين المؤسسات التي تتحمل مسؤولية جمع وتسجيل نتاج المنفى الفلسطيني (المخيمات) أين هم المثقفون وأين دورهم؟ ومن هي المرجعية التي تعنى باستنهاض وتفعيل الحالة الثقافية إلى مستوى صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته، ومعاناته الاجتماعية الاقتصادية وعلى كل المستويات؟

إن من نسميهم النخبة يعيشون في أبراجهم وحصونهم، وهم حالة خاصة مميزة منفصلة عن الواقع الاجتماعي الثقافي بعيداً عن الواقع المجتمعي للمخيمات وخصوصيتها، يكتبون لطبقة معينة! إنهم يكتبون عامودياً.. أما أفقياً حيث العشرات الذين كتبوا بأرواحهم ودمائهم وعذاباتهم ما زال نتاجهم طي النسيان أو ضاع بين ركام مخيم هنا أو هناك.. من يسجل الذاكرة الشفوية للمخيمات؟ أليست أرثاً كفاحياً وأرشيفاً نضالياً للشعب الفلسطيني، تقضي الضرورة جمعها؟ وتقضي جمع مسيرتنا التحررية نحو الحرية والاستقلال والعودة وحاجتنا الماسة إليها كمتحف فكري للأجيال القادمة تدرّس على مقاعد الدراسة كجزء من منهاج تربوي للثقافة الوطنية.

اليوم نحن في أزمة ثقافية تعاني منها الكتلة الشعبية الفلسطينية في لبنان وإن كانت مرتبطة بأزمة الثقافة العربية وانقساماتها ومحوريتها، ولكن ذلك لا يعفينا من مهمتنا الوطنية ومسؤوليتنا التاريخية كفصائل العمل الوطني، وككتّاب، وشعراء، أدباء، إعلاميين، ودورهم في حماية وحفظ وإسناد المتراس الثقافي بكل مقومات الصمود والحفاظ على النسيج الاجتماعي الإنساني الثقافي للمخيم الفلسطيني وإبرازه كحالة متماسكة متمسكة صاحب قضية وذلك بدعم الثقافة الفلسطينية التي أصبحت تعيش تحت خط الفقر بإنشاء المؤسسة الوطنية الثقافية التي تُعنى بالمواهب الشابة للارتقاء بمستواهم وتشريع الأبواب لهم ونتاجهم وجمع إبداعات من كتبوا لفلسطين وطواهم الخلود الأبدي وهم كثر جداً لكي لا يضيع الأرشيف اليومي للمنفى الفلسطيني.

نحن بحاجة إلى رافعة وحاضنة للمثقف الفلسطيني الذي يعيش في المخيم الفلسطيني متفاعلاً مع محيطه منسجماً مع قناعاته ناقلاً الحقيقة والواقع لحسه الوطني وروح انتمائه فكراً وممارسة.

الثقافة يكتبها أصحابها بتشكل وعيهم ومداركهم على خط سلوكهم الاجتماعي الإنساني بكل شفافية بعيداً عن الخيال والتصنّع.. ولا تكتب من الطوابق العليا...