المسألة اليهودية في الولايات المتحدة مركبة ومعقدة نسبيًا لأكثر من عامل، منها أولاً- احتلال العائلات اليهودية الصهيونية الأميركية مكانة مركزية في السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبالضرورة في الدولة العميقة. وبالتالي هي قابضة على مقاليد الأمور في السياسة والاقتصاد والمال والإعلام والفن عمومًا وهوليوود خصوصًا، وتسيطر على عصب القرار داخل الحزبين المركزيين (الجمهوري والديمقراطي). ثانيًا- من خلال تبوئها مركز الصدارة في مركز القرار الرأسمالي الغربي، ومن خلال تربعها على عرش رأس المال والقطاعات الصناعية والعسكرية والإعلامية تمكنت من الإمساك بدفة الحكومة العالمية، والتحكم فيها. ثالثاً- أرست علاقات استراتيجية مع مختلف الفئات والشرائح الفاعلة في المجتمع الأميركي عمومًا، والعنصريين البيض خصوصًا. رابعًا- تمكنت من خلال "الايباك"، اللوبي الصهيوني من تعميق وتوسيع عمليات الدعم لدولة المشروع الصهيوني الاستعماري حتى بلغت المساعدات المالية في العقد الأخير 38 مليار دولار سنويًا، انتزعتها من دافع الضرائب الأميركي، بالإضافة للمساعدات العسكرية واللوجستية والتعاون الأمني الاستراتيجي. خامسًا- حلفاء تلك العائلات الصهيونية وتحديدًا التيار الافنجليكاني (البروتستاني) العنصري الأبيض، وأحد أبرز رموزه الرئيس السابق دونالد  ترامب، وأنصار أميركا أولاً، دعاة التفوق العرقي، بقدر ما تماهوا مع الدعوة والرغبات اليهودية الصهيونية في التكامل والتناغم مع المشروع الصهيورأسمالي، الهادف لتصفية القضية الفلسطينية وخيار السلام وحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، بقدر ما هم معنيون بتكديس الغالبية العظمى من يهود العالم داخل إسرائيل، والدفع بتعميق حالة الصراع بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، من خلال حرف بوصلة الصراع من سياسي إلى ديني، خاصة بين اليهود الصهاينة والعرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا وصولاً لأساطير حرب يأجوج ومأجوج، التي تستهدف حسب أتباع البروتستانتية إبادة اليهود، وعودة السيد المسيح عليه السلام.

وفي النقطة الأخيرة تتجلى عملية التناقض التناحري الصارخ بين مقاصد وغايات العائلات اليهودية الصهيونية و"الايباك" من جهة، وبين أهداف وحسابات الافنجليكان من الجمهوريين المسيحيين الانقلابية والتدميرية من جهة أخرى. فضلاً عن أن، السياسات العنصرية لأتباع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الامتداد الطبيعي لحزب الشاي بزعامة ديك تشيني، نائب الرئيس الجمهوري الأسبق بوش الابن، تركت بصمات سلبية في أوساط اتباع الديانة اليهودية الأميركيين، الذين عبروا عن سخطهم، ورفضهم لتوجهات العنصريين البيض، لأنهم ساهموا مساهمة واسعة في رفع منسوب معاداة السامية في أوساط الشعب الأميركي، مما دفعهم لدعم الديمقراطيين في الانتخابات السابقة. ليس هذا فقط، إنما ترافق معه تحول في رؤية الشباب الأميركي من أتباع اليهودية إيجابًا، لجهة رفض ما يزيد على 30% منهم للسياسات الإسرائيلية العنصرية والإجرامية.

وبشأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة الأبحاث الأميركية "GBAO" شارك فيه 800 ناخب يهودي أميركي، مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي مع فتح صناديق الاقتراع للانتخابات الأميركية النصفية نيابة عن لوبي "جي ستريت" اليهودي الأميركي، وهو لوبي مؤيد عمومًا للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. كشف عن أن أكثرية اليهود الأميركيين يعتبرون ترامب وحلفاءه في الحزب الجمهوري مسؤولين عن تصاعد معاداة السامية.

كما أظهر الاستطلاع، أن 76% من يهود أميركا، يعتقدون أن الرئيس السابق الافنجليكاني العنصري، وأنصاره الداعين لتفوق البيض مسؤولون عن ارتفاع معدلات معادات السامية. خاصة وأن الاستطلاع يأتي بعد تقارير عن تزايد الانتهاكات والجرائم ضد السود والملونين، مما ضاعف من انعكاسات تلك السياسات المهددة للديمقراطية، ولوحدة النسيج الاجتماعي على الشارع الأميركي عمومًا، وأتباع الديانة اليهودية خصوصًا، الذين ادعى ترامب أنه حليفهم، والداعم الأكبر لدولة إسرائيل الاستعمارية.  

ووفقًا لصحيفة "نيوزويك الأميركية" أشار الاستطلاع إلى أن 74%  تعتبر الرئيس الجمهوري السابق وحركة "ماغا" المنادية بـ"عظمة أميركا" وتفوقها ساهموا بزيادة معدلات الجريمة على الأساس العنصري. وهذا ما أشار إليه جيرمي بن عامي، رئيس "جي ستريت" بالقول، إن "الغالبية العظمى من مجتمعنا تشعر بقلق عميق من تصاعد معاداة السامية، وتفوق البيض والتطرف اليميني بقيادة ترامب وحلفائهه في الحزب الجمهوري".

النتيجة المنطقية تشير إلى عدم تساوق الأميركيين من اليهود مع غلاة اليمين العنصري المتطرف، وترفض خلفيات دعمهم لإسرائيل، وتعتبرهم بشكل مباشر وغير مباشر عامل تفجير للشارع الأميركي، وسببًا رئيسًا في تهديد أتباع اليهودية في أميركا خصوصًا وحيثما وجد اليهود في أوروبا والعالم بما في ذلك الموجودون في إسرائيل، وفي الوقت ذاته، لم تعد تؤيد السياسات والانتهاكات الإسرائيلية، لا بل ترفضها، وتهاجم ممارسات وجرائم الحكومات الإسرائيلية العنصرية والمعادية للسلام، وتطالبها عمليًا بالتراجع عن جرائم الحرب التي ترتكبها.

أضف، إلى أن زواج المتعة التاريخي الرأسمالي عمومًا، والأميركي خصوصًا مع أتباع الديانة اليهودية آخذ في الضعف، والتراجع نسبيًا، وصيرورته تشي بتفككه بعد عقد أو أكثر قليلاً من الزمن نتاج اتساع دائرة التناقضات بيهما. لا سيما وأنه مرتبط بمجمل الصراع الدائر في العالم الأول على تقاسم النفوذ على الغاز والنفط والمال والثروات الطبيعية الأخرى، وحتى على الفضاء.

المصدر: الحياة الجديدة