نديم علاوي

جيل يعقبه جيل، وعام يذهب وآخر يأتي، وأذهان وأفئدة الفلسطينيين تتوارد إليها حكاية تهجير وترحيل وتشريد قسري عن ذكريات وحقائق وقصص معاناة شعب، ورؤية مستقبلية عن قتل ومجازر نتج عنها تطهير عرقي وتهجير مستمر منذ 73 عاما، أطلقوا عليها "النكبة".

"شاركت في معركة الشيخ جراح والقسطل والنبي يعقوب وجبل المكبر والدهيشة وبيت صفافا والقطمون وكفار عتصيون، إنها معارك ضارية هدمت كل شيء، وعدو مجرم مسلح بالبنادق وقنابل يدوية حارقة ومتفجرات وقذائف هاون تدب بين مساكن الفلسطينيين".

هكذا يحكي المسن محمد محمود جاد الله (أبو نهاد)، والذي يبلغ من العمر (100 عام) لـ"وفا"، عن فصل من فصول الشعب الفلسطيني، ومرحلة من مراحل حياته، لم يعاصرها فقط، بل شارك فيها وكان جزءا منها.

جاد الله مواليد 17-5-1921، ولديه 10 أبناء، أصغرهم ابنة بحدود (57 عاما)، وزهاء 170 حفيدا، قابلته "وفا" في منزله قرب المسجد العمري الكبير في الجهة الغربية قليلا من قرية صور باهر بالقدس المحتلة.

صوته وكلامه وهو يردد عبارات استبسالية عن النكبة، قد لا يدل أنه قد تخطى الـ100 عام. وخلال مقابلته كان يفرغ ذكريات النكبة كلمة كلمة، خوفا من إلغاء دور الفلسطينيين خلالها، أو شطب مرحلة من مراحلها.

في الشهر السادس من عام 1947 اختارت "الهيئة العليا" في القدس التي فتحت أبوابها للمقاتلين آنذاك، قبل انسحاب بريطانيا من فلسطين، مجموعة من أبناء القدس وأكناف بيت المقدس، "كنا بحدود 40 شخصا من مناطق عديدة"، يقول جاد الله.

"رتبت لنا بالقدس مع شركة الباصات الوطنية السفر إلى حيفا وقضينا ليلة في ناد رياضي قبل التوجه إلى صفد، ولقاء رجل من الرجال المعروفين في فلسطين حينها، وهو صبحي الخضراء، الذي استقبلنا عنده قبل أن يوصلنا إلى نهر الأردن ويجتاز حاجزا بريطانيا.

في الجهة المقابلة، كان ضباط سوريون ينتظرون وصولنا، لإيصالنا إلى معسكر "قطنة" السوري أكبر معسكر للجيش السوري حينها، "3 شهور متواصلة ليل نهار على التدريب على السلاح، وإعداد الالغام، والتدريب الجسدي"، يتابع جاد الله.

ويتابع "قبل تخرجنا من التدريب العسكري في سوريا، زارنا الشهيد عبد القادر الحسيني وتناول معنا وجبة غداء من البرغل، حينها بالصدفة كان يجلس الحسيني على الطاولة مقابلي مباشرة، وأنا آكل الطعام مضغت حجرا صغيرا بالخطأ في فمي، فانتبه الحسيني، وقال لي بس ترجعوا على فلسطين رح تاكلوا صرار، منوها إلى أن معارك ضارية ستحدث في فلسطين مع الصهاينة".

برتبة ملازم أول  في السرية الرابعة من الفوج الثالث التابع للجهاد المقدس، برفقة محارب من صور باهر برتبة ملازم ثانٍ، تسلم جاد الله ورفيقه تدريب عدد من شبان بلدته صور باهر على الرماية وبعض الأساليب العسكرية.

يقول جاد الله: "صور باهر كانت الخط أمام 5 مستوطنات اسرائيلية شيدت حديثا، وواجهة القرى العربية في المنطقة، من العبيدية وبيت لحم والسواحرة وبيت ساحور، حينها، أوكلت إلينا مهمة عسكرية حساسة، إعداد خنادق ودشم عسكرية، وهي عبارة عن استحكامات ومراكز مسلحة أمام المستوطنات الإسرائيلية، ومواجهة 5 مستوطنات".

وتطرق جاد الله لاستشهاد بعض رفاقه في معركة القسطل في القدس في 6-4-1948، "بين صلاتي العصر والمغرب كانت المعارك قوية في القسطل، دبت قذيفة من العدو قريبة من مكان وقوفي، فانجرح 3 أشخاص من الذين كانوا برفقتي، واستشهد أحدهم بسبب حمله قنابل منوعة ما أدى إلى انفجارها بجسده، واسمه محمد ناجي علي جاد الله".

ويرى جاد الله أن النكبة ما زالت مستمرة منذ عام 1948، مؤكدا أن الفلسطينيين لم ينعموا يوما بالعيش بأمان وسلام بسبب الاحتلال.

ويذكر أن جاد الله كان أول مواطن استقبل الشهيد ياسر عرفات عندما دخل فلسطين عن طريق اريحا، وكان شاهدا على جلسة في محكمة بداية نابلس خلال العام الجاري 2021، لتحميل بريطانيا المسؤولية عن وعد بلفور كشاهد من عصره.

مسؤول الثقافة في الهيئة الإسلامية العليا، رئيس نادي الموظفين في القدس عزيز العصا الذي ألف كتاب "100 عام من حياتي"، عن حياة أبو نهاد جاد الله، قال إن جاد الله آخر مقاتل حي من زمن النكبة.

وتابع "أجده في كلامه عن النكبة عبر وسائل الإعلام المختلفة، لا ينسى جزءا منها، ويكرر نفس الحديث بنفس الترتيب بنفس الذاكرة والتسلسل، بشهادة صادقة ودقيقة، تصف الحدث كما هو، فهو مصدر ومرجع مهم جدا نحن بحاجة ماسة له في هذا الوقت".

ويشار إلى أن المسن جاد الله نشر قصيدة له على صفحته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي عن مشاركته في النكبة، بمناسبة عيد ميلاده الـ100، قال فيها:

يا فلسطين اذكرينا ولا تنسينا

سجلي من قاتل وناضل فوق أراضينا

وعد من الله النصر لفلسطين آتينا فوق الأذان فوق المآذن تنادينا

حمى الله القدس والمسجد الأقصى من أعادينا

الله أكبر الله أكبر رغم أنف اعادينا والسلام على من اتبع هادينا