لا تنجيم في السياسة، غير أن بعض الفضائيات الإخبارية السلعوية جعلت من التحليل السياسي نوعًا من التنجيم، وهي تستقبل منجمين وعرافات، وتقدمهم كمحللين سياسيين يتحدثون، وبعضهم بثقة متناهية، عن الذي سيكون في هذه القضية أو تلك من شؤون العالم السياسية وغيرها!!!
ومن هؤلاء ثمة عرافة قالت إبان انتخابات الرئاسة الأميركية، أن "دونالد ترامب" سيكون آخر رئيس للولايات المتحدة!!! لأن الحرب الأهلية ستندلع هناك لتمنع تنصيب الرئيس المنتخب "جو بايدن" ومثلها قال منجم آخر شيئًا من هذا القبيل، وهو يرى حربًا تلوح في الأفق!!!! وقبلهما حسم منجم سياسي، الصراع الانتخابي على الرئاسة الأميركية لصالح "ترامب" وعلى نحو تحدى فيه كل الاحتمالات الممكنة!!! آخر تحدث عن خسارة "لترامب" ثم فوز له!! وعلى ما يبدو أن هذا المنجم كان على علم بخطة "ترامب" الاحتياطية، وهي التشكيك بسلامة الانتخابات، ونزاهتها الديمقراطية، في حال خسارته فيها، متوهمًا أن خطة من هذا النوع يمكن أن تنجح وتحقق هدفها، فتعيد الفوز "لترامب" بعد خسارته التي جاءت حاسمة !!!
إلى جانب ذلك ثمة مخاوف تنجيمية إلى حد كبير، تداولتها بعض المقالات، وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، أن "ترامب" سيلجأ بعد أن حسمت نتيجة الانتخابات لصالح الديمقراطي "جو بايدن" إلى إعلان الحرب على إيران، قبل حفل التنصيب للرئيس المنتخب بأيام، وأن ذلك سيبقيه في البيت الأبيض، وفقا لنص في الدستور الأميركي يقول ذلك، وهذا على ذمة رواة هذه المخاوف!!!
لا حرب أهلية اندلعت في أميركا، ولا حرب أعلنت على إيران، ولا "دونالد ترامب" فاز بالانتخابات،  والواقع أن أصوات التنجيم هذه، لم تكن، بعضها المحموم تحديدًا، اعتباطية، ولا فقرة من فقرات التسلية في تلك الفضائيات الإخبارية، وإنما كانت عملًا من أعمال هذه الفضائيات للترويج لهذه الأصوات، وتكريسها بديلًا عن القول السياسي العلمي، والموضوعي، لتعم فوضى الغيبيات حسابات القرايا، فتنجو حسابات السرايا بغاياتها، وبقدر ما هي حسابات السرايا، هي حسابات إدارة ترامب، بقدر ما استهدفت أصوات التنجيم السياسي الترويج لها، لعلها تمنع بقوة التهديد بالخراب، هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، ومغادرته البيت الأبيض!!!
وبالطبع، ولأن التنجيم السياسي هذا بعد كل توصيف له، ليس غير عمل من أعمال المخيلات الرغائبية عديمة البصر والبصيرة، فإنه لن ينتهي إلى غير السقوط والهزيمة..!!!
خسر ترامب الانتخابات، لكن مردود أصوات التنجيم بات يتجلى بعضه في مقالات، وتقولات وآراء  سياسية تقليدية، ومكررة الكلمات والشعارات، إذ باتت تتناول الرئيس الفائز "جو بايدن" بأنه لن يكون بصورة أو أخرى، بأفضل من "دونالد ترامب" خاصة ما يتعلق بالشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، وذلك لأنه من الداعمين لإسرائيل تاريخيًا، وأن أزواج بناته من اليهود!!!  وفي الحقيقة أن مقالات وآراء من هذا النوع، شاء أصحابها أم لم يشاؤوا، لن تصب في النهاية لغير صالح الخطاب الرسمي الإسرائيلي، الذي لا يريد أي شرخ، مهما صغر، في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ولعل هذه المقالات وهذه الآراء، ومع حسن النوايا، لا تريد سوى التنبيه من التوغل في التفاؤل بالإدارة الأميركية الجديدة، وتاليا تعطيل التطلع الوطني الفلسطيني، بالعمل مع  هذه الإدارة، متجاهلة أن هذا التطلع لن يكون إلا من "أجل السلام والاستقرار في منطقتنا والعالم أجمع"، مثلما عبر عن ذلك الرئيس أبو مازن في تهنئته الرئيس المنتخب "جو بادين" عقب دخوله البيت الأبيض، وأنه تاليا تطلع الإرادة الفلسطينية التي لا تقبل أية مساومة على ثوابتها المبدئية. 
لن نقول إن الرئيس المنتخب سيكون أقرب إلى فلسطين، منه إلى إسرئيل، وإلى حد أن يتخلى عن دعمها، ساذج من يتصور ذلك، لكن السياسة وهي فن الممكن، والراهن المتحول، تلزم أن تتنبه هذه التحليلات والمقالات إلى أن الرئيس المنتخب بايدن كان قد أعلن غير مرة أنه سيعمل على محو ما فعلته إدارة ترامب في قضايا عديدة، وفي حفل التنصيب أعلن أنه يريد أن يعود بالولايات المتحدة، كقوة خير في هذا العالم، وأنه سيحارب أفكار التطرف والعنصرية، وقال عن القضية الفلسطينية، إن حل الدولتين "ربما" يكون الوحيد، وإن كنا لا نحبذ كلمة "ربما" هذه، إلا أننا نتطلع لأن تتبنى إدارة بايدن، وعلى نحو حاسم، حل الدولتين، وبالطبع لن نكتفي بالتطلع، وإنما بالعمل السياسي الدؤوب الذي يجعل ذلك ممكنًا، خاصة والرئيس أبو مازن قد أثبت للعالم أجمع أنه لا مساومة على الثوابت المبدئية الوطنية، ولا على طريق السلام، وحل الدولتين الذي يظل ممكنًا.
والأكثر أهمية فإن ما أطاح بصفقة ترامب التصفوية كان هو هذا الموقف الوطني التاريخي للرئيس أبو مازن، الذي وقف منددًا بالصفقة، ومتصديًا بالإجماع الوطني لها، وهذا يعني بلا أي جدل، أن لا رهانات لفلسطين على أحد لكي يحقق لها الحرية والاستقلال، وإنما تظل رهاناتها وطنية نضالية، بصلابة القرار الوطني المستقل، بنضالية واقعيته السياسية، وسلامته المبدئية، وحراكه في كل اتجاه، وفي كل ساحة، عربية، وإقليمية، ودولية، للمضي بمشروعه التحرري في طريق التحقق، وبين يديه خطة للسلام، عبر مؤتمر دولي، مستندًا إلى قرارات الشرعية الدولية.
لا تنجيم في السياسة حقًا، وإنما رؤى، وقراءات تحليلية علمية، واستشرافية، ولهذا يسقط المنجمون، وينجح أصحاب الرؤى والقراءات التحليلية العلمية، والاستشرافية ولهم مردود هذا النجاح قطعًا.