خضر الزعنون

رغم مرور عشرين عاماً على استشهاد الطفل محمد جمال الدرة، الذي لم يتجاوز الإثني عشر ربيعاً، يبقى مشهد اغتيال الطفولة والبراءة التي جسدها وهو يحتمي بأبيه ماثلاً في الذاكرة.

صورة الطفل البريء وهو يحتمي بوالده من رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي المصبوب عليهما، أدمت قلوب الأحرار في العالم، وشكلت أيقونة لـ"انتفاضة الأقصى"، ولنضال الشعب الفلسطيني المتواصل منذ أكثر من سبعة عقود.

مناشدات والده المكلوم وهو محاصر وطفله برصاص الإرهاب الإسرائيلي، لم تشفع لهما عند جنود الاحتلال المجردين من القيم والأخلاق والضمير، وهم يرتكبون أبشع الجرائم بحق أبناء الشعب الفلسطيني، لا سيما الأطفال، أمام مرأى ومسمع العالم أجمع، في انتهاك واضح لكافة الأعراف والقوانين الدولية.

جمال الدرة (55 عاماً)، يستذكر لحظة الألم والوجع بعد مرور عشرين عاماً على اغتيال فلذة كبده محمد، ويقول: في 30 أيلول/ سبتمبر من العام 2000، خرجت من منزلي في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة أنا وابني محمد إلى سوق السيارات في مدينة غزة .. لم أتمكن من شراء سيارة، وفي طريق العودة إلى المخيم، كان شارع صلاح الدين مغلقاً، فتوجهنا شرقاً إلى شارع المنطار، وفجأة تم إطلاق النار بكثافة علينا، وحاولنا الاختباء، وحينها سألني محمد "لماذا يطلقون علينا الرصاص؟"، فلم أجد إجابة لسؤاله، وحاولت جهدي أن أقوم بحمايته.

استمر إطلاق الرصاص على محمد ووالده، فأصيب الطفل برصاصة في ركبته اليمنى، وصرخ قائلاً "أصابوني أصابوني"، طلبت منه البقاء هادئاً، إلى أن تأتي سيارة إسعاف لتخلينا من المكان.

وأضاف جمال الدرة، استمر إطلاق الرصاص ونحن نحتمي خلف برميل معبأ بالاسمنت، بدأت بالصراخ "تصاوب الولد..رصاصة"، فلم تجد مناشدتي سامعا، وانطلقت حينها رصاصات قاتلة أصابت بطن محمد وخرجت من ظهره، فوضع رأسه على رجلي اليمنى ولمحت في ظهره جرحاً غائراً، وحينها أيقنت أن ابني استشهد. أصبت أنا وبقيت أنزف لوقت طويل، ولا زلت أعاني من الإصابة حتى وقتنا الحاضر".

وأكد جمال الدرة ضرورة محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين على جرائمهم ضد الأطفال وباقي أبناء الشعب الفلسطيني، مشيراً إلى أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، فهذه جريمة يجب أن تحاكم عليها إسرائيل رغم أنها تزيف الحقائق.

ووجه جمال الدرة اللوم للمنظمات الحقوقية الدولية التي لم تنصف الشعب الفلسطيني على مدار السنين الماضية، مضيفاً "لو أن هذه الجرائم ارتكبت في دولة غير فلسطين لفرضوا عليها حصارا وطالبوا بمحاكمات جنائية. نحن نطالب تلك المنظمات بالوقوف إلى جانب شعبنا، وأطالب كوالد شهيد بمحاكمة هذا الاحتلال والوصول لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي".

وشدد جمال على أنه لا يمكن أن ينسى قضية ابنه محمد، وإصابته التي تلازمه تداعياتها حتى اللحظة تذكره كل يوم بالجريمة، وأنه لم يستكمل علاجه بعد، حيث من المقرر أن يجري عملية جراحية معقدة في يده، عجز الكثير من الأطباء عن إجراءها، لكن طبيبا فرنسيا زار غزة مؤخراً، ووعده أن يجري له هذه العملية بمجرد أن يتوجه إلى فرنسا لتعود يده إلى حالتها الطبيعية.

وناشد جمال المسؤولين لإجراء العملية، وتمنى أن يستجيبوا لاستكمال علاجه.

أسرة الشهيد محمد الدرة، توجهت صباحاً إلى مقبرة الشهداء في مخيم البريج وقرأت الفاتحة على ضريحه، وقاموا برش القبر بالماء ووضعوا الأكاليل والورود، "سيبقى خالداً فينا وذكراه لن تمحى مطلقاً من عقولنا وقلوبنا ومعنا أحرار العالم وكل ضمير حي".

ولد محمد يوم 22 تشرين ثاني/نوفمبر 1988، ودرس حتى الصف الخامس الابتدائي، وعاش في كنف أسرة بسيطة لاجئة من مدينة الرملة، فيما والده جمال يعمل نجاراً، ووالدته ربة منزل، لاحقاً بعد استشهاده رزقت عائلته بطفل أطلقت عليه اسم محمد تيمناً بشقيقه، وهو الآن في الثامنة عشرة من عمره.

قضية اغتيال الطفل محمد الدرة ليست الوحيدة لكنها تصدرت الصحف والمواقع العالمية بعد توثيق الحادثة، ففي نفس العام استشهد 94 طفلاً حسب الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، والعام الذي يليه استشهد 98 طفلاً، و192 شهيدا في 2002، و130 شهيدا في 2003، و162 شهيدا في عام 2004، وحتى نهاية أيلول2019 وصل عدد الشهداء الأطفال منذ نفس الشهر من عام 2000 إلى2103 شهيداً.