يظن الكثير من الناس أن السياسيين عندما يُقدِمون على فعل خطير يتناقض مع رغبات شعوبهم يرتجلون، وكأن الفعل مفاجئ فرضته الظروف.. والصحيح أنَّهم يُحضِّرون له على كل الصعد، وأهمها اختراق الوعي الجمعي وإحداث الفوضى الفكرية وخلق أسئلة وأجوبة تُحدث إرباكًا في ثقافة الشعوب المقاوِمة لهذا الفعل. لذلك يُجهِّزون أسلحتهم الضرورية لتحقيق ذلك: القنوات الفضائية، وسائل الإعلام المسموع والمقروء، وسائل التواصل الاجتماعي، تحضير المتحدِّثين والمحاوِرين، المواطنين البسطاء الذين سيصفِّقون، المواطنين الذين سيغضبون وينتصرون لقُطْريتهم، وأخطرهم، بعض رجال الدين وخطباء المساجد، وإن أمكن، ودون إحراج، بعض أصحاب الوزن منهم، حتى لو لجأوا إلى المواربة، ولا بأس بتحييد بعض المثقفين والأساتذة، إما بدفعهم للصمت، بالوعود، أو على الأقل، ضمان عدم التعرض لهم إنْ "رجرجوا" بالكلام.

لا ينتبه الكثير من السياسيين والمثقفين من كل الفئات إلى الكمائن الثقافية التي تُنصب لهم، فيسارِعون إلى تلبية الدعوات للظهور على وسائل الإعلام المتنوِّعة للدفاع عن رؤيتهم، وفي ظنهم أنهم قادرون على لجم الآخرين، المطبِّلين والمزمِّرين وفق ظنهم، والخارجين عن ثوابت الأمة.

يغيب عن بالهم، أن الآخرين قد تمَّ تدريبهم، وتم تزويدهم بنقاط القوة والضعف لدى المحاور أو الذي سيظهر معهم، ويتم تحضير الأسئلة والأجوبة والتدريب على لحظة الاستفزاز الضرورية، وما هي المعلومة التاريخية أو الدينية أو السياسية أو الشائعة المغلوطة التي تُلقى في وجه المتحدث فجأة ودون أنْ يكون لها علاقة بالموضوع، لإثارة غضبه وإخراجه عن الاتزان بالحوار، فيحصل الارتباك عند المشاهد أو القارئ والمستمع. يحصل انفجار الغضب المشروع، الغضب المتفجِّر التلقائي، أحد وسائل الدفاع التلقائية، فيكون قد وقع في مصيدة ومكيدة مدبرة، فلا ينفع بعدها العودة إلى الهدوء، يكون الضرر قد وقع كما خُطِّط له تماما.

شاهدت الكثير من الحوارات، وحزنت عندما لاحظت أن عددًا من المتمرِّسين في الثقافة والسياسة والحوار، وقعوا ضحية هذا التخطيط الجهنمي، راقبت ردود فعل المحيطين بي من المشاهدين: غضب وإحساس بالخِذلان وسؤال صارخ، لماذا يشارك هذا أو ذاك إن لم يكونوا قادرين على كبح جماح الغضب، مع السب والشتم على الآخر الذي كذب وحرّف.

ينسحب ذلك على كتّاب الرأي، الذين يلتقطون موقفًا هنا أو هناك، فيتصدون للرد بشعبوية، فيلتقط المدرَّبون هذا الرد الشعبوي، لإحداث المزيد من الارتباك.

هذا لا ينفي طبعًا وجود الوعي لدى الكثيرين، ولكن، أعتقد أن على من يحاور أو يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الصحف أن يضع نصب عينيه، أنَّ هناك مئات المحطات الفضائية وآلاف محطات الذباب الالكتروني، يُراقب المختصّون منهم، أيَّ ثغرة أو هفوة، للاستفادة منها في إثارة بلبلة الوعي والتشكيك في صحة الموقف.

ما أصعب حوار العالم مع الجاهل، وحوار الحليم مع اللئيم، لذلك قال الإمام الشافعي: "ما جادلت عالمًا إلا وغلبته وما جادلت جاهلاً إلا غلبني"، وينسحب ذلك أيضًا على ردود فعل المواطنين الغاضبين الذين ينجرّون إلى معارك مرَتَّبة وقبيحة ومضلِّلة، تُطلقها أجهزة مدرَّبة، أو هي أيضًا انفعالات يظنُّ أصحابها أنها دفاع عن أوطانهم.

أظنُّ أنَّ الوعي بهذا السلاح الثقافي المدمِّر والقاتل الذي يستخدمه أعداء الأمة يجب أنْ يُواجَه بثقل المعرفة وحقائق التاريخ ومصالح الأمّة، وتدريب النفس على مواجهة كل احتمالات الحوار وكمائنه.

ينبع تحذيري هذا مما أشاهده وأسمعه، فالقادم أسوأ، ويجب أنْ تنتصر قوة الثقافة...

لا للتطبيع، وخاصة الثقافي.