لا نحتاج الى أبيات شعر أو أقوال فلاسفة أو تنظيرات سياسية للتعبير عن حبنا للبنان عمومًا وبيروت خصوصًا، فيكفي أننا نتألم تمامًا كاللبنانيين النازفة جروحهم، ونبكي ضحايا الانفجار الكارثة كما يبكيهم اخوتهم وأشقاؤهم وأبناؤهم وآباؤهم وأمهاتهم وأخواتهم، فنحن عندما نقول نحبك يا لبنان ونحبك يا بيروت فإننا لا نتغزل ولا نركب صهوة الكلام للوصول الى مبتغى وإنما لأننا منسجمون مع إنسانيتنا ونحب الحياة، وفي بيروت سر للحياة لا يدركه إلا الصادقون الملتزمون بثقافتهم الإنسانية المؤمنون بتكامل الحضارات، الرافضون لمقولة الصراع بينها.

 نحب السلام لبيروت، كما نحب السلام للقدس، نحبها ليس لأنها قصيدة صمود أسطوري خطها الفلسطيني واللبناني معًا على أرضها وحسب، بل لأنها رحم طيب طاهر حملنا حتى إذًا جاء موعد الوضع كنا على موعد مع مهدنا التاريخي الطبيعي فلسطين، لأنها عاصمة العواصم الكبير والصغيرة، لأن الكلمة المعجونة بالمنطق كانت تبدو من أفواه أصحاب الرأي الأحرار كالدر لامعة براقة، نحب بيروت لأن لنا فيها أحبابًا وأصدقاء وأهلاً لبنانيين، لا نعرف ولا نريد أن نعرف الى أي طائفة أو مذهب أو عرق ينتمون، نحبهم لأنهم انعكاس طبيعي لإنسانيتنا، ولأننا انعكاس طبيعي لإنسانيتهم بكل ما فيها من إبداعات وتألق.

نحب لبنان ونحب بيروت لأن اللبنانيين يقدمون درس الدولة والقانون والسيادة لنا وللأشقاء العرب لكن ليس في كتب ومحاضرات جامعية، ومناظرات كلامية هلامية، وإنما بتجارب كلفتهم الكثير من أرواح ابنائهم، ولأنهم يضعون خلاصات تجاربهم على طاولتنا لنختار إما دولة القانون والمؤسسات، أو دويلات الجماعات والأحزاب، لنختار إما العدالة أو الظلم والفساد، إما استقلال القرار الوطني أو التبعية والولاء وتنفيذ اجندات خارجية.

نحب لبنان وبيروت ليس لأننا تشاركنا وما زلنا نتشارك يوميات التضحية والافتداء والقتال وامتزاج دماء اللبنانيين والفلسطينيين في ميادين المعارك، أو لأننا كنا ضحايا أبرياء لعدوان صهيوني عنصري الذي يستهدفنا دونما تمييز، بل لإيماننا بحق أشقائنا بالحياة الحرة الكريمة التي هي هدفنا اولا وأخيرا، بالحرية التي ننشدها وينشدونها، وحقهم في اختيار نظامهم السياسي الذي يؤمن لهم السلام والاستقرار والتقدم  والنمو.

 نحب لبنان لأنه يثبت لنا كل يوم حقيقة بأن قوة الدولة ليس فيما تملك من جيوش أدوات وأسلحة حرب وإنما بالتقاء الشعب على فلسفة الحياة ودستورها، وقدرته على تأسيس نظام ضامن لحقوق كل فرد في نطاق الدولة تحت سيادتها، وانسجام الجميع في لوحة وطن واقعية مادية حقيقية لا تؤثر فيها العوامل والكوارث الطبيعية، ولا تتأثر بعوامل الغزو والمؤامرات الاعتداءات الخارجية، وإن حدث وتأثرت فإنها غير قابلة للانكسار أو السقوط النهائي  والاندثار، فلبنان مثال حي على الظاهرة الحضارية التي لا تندثر حتى لو كثرت عليها المحن  والشدائد والمصائب، ما يعني أن شعوب هذا الساحل الفينيقي الممتد من بيروت حتى يافا مرروا بعكا وحيفا وصيدا وصور الذي خطت فيه أول أبجدية للإنسانية ستبقى قادرة على استيعاب موجات التدمير الموجهة والمبرمجة وتكسيرها على صخور حضارة عمرها آلاف السنين. 

سيعرف اللبنانيون أسباب كارثة متفجرات مرفأ بيروت، وقد يمسكون بأول خيط المؤامرة الفظيعة، وسيصلون الى الفاعل سواء كان عدوا قصد تدمير مقدراتهم الحياتية ودفع لبنان الى قاع الهاوية، أو متواطئا أو فاسدًا، أي أيّا كان فهو في اعتبار القانون مجرم حرب عن قصد أو دون. 

يدرك اللبنانيون ونحن معهم ومعنا كل العرب أن هذا الانفجار الفظيع غير المسبوق في تاريخه الذي أصاب رمز الشهداء في وسط بيروت ولم يفرق بين جامع وكنيسة، وبين محمد وشربل وحسين سيكون درسًا لكل الدول والشعوب العربية ومؤشرا يوجههم نحو ممر إجباري، رفعت فيه قواعد وقوانين الدولة المدنية التقدمية الديمقراطية العادلة، وتوجد فيه كتب فلسفة الولاء للوطن، ومسارات العمل الوطني بإخلاص وتفان وصدق لمن يرغب في الوصول الى نهاية الممر.

ما كنا بحاجة لكل هذه الدماء الطاهرة وهذا الدمار الهائل الذي رأيناه في ميناء بيروت الذي خرجنا منه  في رحلة العودة الى فلسطين حتى نقول نحبك يا لبنان، ونحبك يا بيروت يا توأم القدس مدينة للمحبة والسلام.