بعد إعلان الرئيس محمود عبَّاس التحلل من الإتفاقات المبرمة مع إسرائيل يوم الثلاثاء الموافق 19 مايو الحالي (2020) خرجت بعض القوى السياسية ببيان سياسي إستهدف الإنتقاص من الخطوة الوطنية الشجاعة، والتي تطالب بها الجماهير والنخب السياسية الفلسطينية قبل إنعقاد الدورة ال27 للمجلس المركزي في مايو 2015، بعد أن فقدت الأمل بوجود شريك إسرائيلي لصناعة السلام الممكن والمقبول، ومع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل في ظل حكومات نتنياهو إلى أعلى مراحل التغول ولوجا للفاشية عبر تعميق العنصرية الصهيونية، وجاء في البيان، أن القيادة الفلسطينية "مازالت تراوح في ذات المكان، ولم تغادر موقع المفاوضات". وكأن التمسك بالمفاوضات "جريمة" أو "نقيصة"، أو بإعتبارها "عنوانًا للتنازل" عن الحقوق والأهداف الوطنية. وللأسف فإن هذا الفهم يعاني من خلل مفاهيمي، وقصور فكري وسياسي وكفاحي، وجهل بأهمية وضرورة المفاوضات في كل المحطات التاريخية للنضال الوطني أو الإجتماعي أو النقابي.

لأن أصحاب البيان لم يميزوا بين ضرورة التفاوض كسلاح من أسلحة المفاوضات، وبين دور المفاوض وقدرته على الدفاع عن القضية التي يدافع عنها على طاولة المفاوضات.
وحتى نضع أٍسس صلبة للحوار حول هذة النقطة، تملي الضرورة العودة لتعريف التفاوض علميًا، هو فن إدارة الحوار (الصراع) مع الآخر لتحقيق هدف أو جملة أهداف محددة في زمن محدد، ووفق شروط مناسبة أو العكس. بتعبير آخر، التفاوض، هو سلاح من أسلحة المواجهة بين الأطراف المتصارعة بغض النظر عن شكل ومحتوى وزمن الصراع او الخلاف الدائر هنا أو هناك، بيّد أن التفاوض ليس عنوانًا للتنازل، ولا للتخلي عن الأهداف الخاصة أو العامة، أنما هو جبهة مواجهة مع الخصم أو العدو أو اي طرف حول أي قضية من القضايا الخلافية لإنتزاع الحقوق والأهداف المحددة. وبقدر ما يكون المحاور مبدعًا، ولماحًا وذكيًا وحاضرًا في الدفاع عن قضيته، بقدر ما يحقق الهدف أو الأهداف المرجوة.
إذًا التفاوض هو مهارة أساسية وضرورية لكل إنسان ومجموعة وشركة وحزب وقوة وشعب ودولة وكتلة دولية، لا يمكن تجاوزها، أو القفز عن أهميتها وضرورتها في مختلف محطات ومجالات الحياة والمراحل التاريخية. وتاريخ البشرية منذ بدء الخليقة حتى يوم الدنيا هذا، كان تاريخًا موسومًا بالمفاوضات. وإذا توقفنا أمام الصراعات الوطنية والقومية والصراعات الطبقية الإجتماعية الكبرى (الثورات الإجتماعية) نجد أن القوى المختلفة المنتصرة والمهزومة المتصارعة في لحظة من الصراع الساخن، لجأت للصراع بأسلوب آخر حول طاولة المفاوضات أما مع إستمرار الصراع الساخن، أو في ظل هدنة سياسية محددة وفقًا لموازين القوى، ولكيفية إدارة الصراع بين الفريقين المتصارعين هنا أو هناك.
وعليه التمسك بسلاح التفاوض، لا يعني الإستعداد للتنازل، ولا يعني التخلي عن الأهداف الوطنية، وإذا قصرنا الحديث على المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، فإن إبقاء الباب مفتوحًا للتفاوض مع الإسرائيليين، لا يعني تخليًا عن المصالح الوطنية العليا، ولا يعني التنازل عن الثوابت والأهداف الوطنية، بل العكس صحيح. وحتى لو الآن عدنا لإستخدام كل أشكال النضال وعلى رأسها الكفاح المسلح، لا يمكن أن نسقط من يدنا سلاح التفاوض. لإننا بالمحصلة سنجلس مع العدو على طاولة المفاوضات في مؤتمر دولي لتكريس أهداف وحقوق الشعب أمام المجتمع الدولي الضامن لعملية السلام.
إذًا على كل القوى والنخب السياسية الفلسطينية أن تصوب رؤيتها تجاه مسألة المفاوضات، وأن تعيد النظر في محاكاتها لفن التفاوض. دون أن يسقط حقها في تسجيل الملاحظات والنقد السلبي أو غيره لطريقة وآلية إدارة التفاوض مع العدو الإسرائيلي، ولكيفية التعبير عن الموقف السياسي الفلسطيني. وهنا نلحظ الفرق الشاسع بين التمسك بفن التفاوض كسلاح، وبين إدارة التفاوض مع العدو.
كما آن التمسك بالتفاوض لا يعني إسقاط حق الشعب في إستخدام كافة أشكال النضال لتغيير موازين القوى لصالح الموقف الوطني، ويخطىء من يحشر الموقف الوطني في زاوية واحدة، أو في إسلوب واحد. لا سيما وأن الشرعية الدولية كفلت للشعب الفلسطيني استخدام كافة أشكال النضال دون إستثناء. ونحن في مرحلة جديدة تتطلب اعادة نظر في قراءة معادلة الصراع مع العدو الصهيو اميركي.