المجتمعات البشرية تتكون من قطاعات سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وثقافية وما بينهما من تفرعات على المستويين الرسمي والأهلي، وارتباطًا بالبناءين التحتي والفوقي، وهذه القطاعات الخاصة والعامة تمارس مهامها اليومية وفقًا لبرامج ومحددات العمل الملقى على كل منها، وبين فترة وأخرى تقوم كل منها، أو هكذا يفترض بمراجعة تجربتها، وتجري تقييمًا لأدائها. كثير من الهيئات والقائمين عليها يميلون إلى الرضا عن الذات، فيضخمون الإيجابيات، ويقللون السلبيات، أو لا يذكرونها، وإن ذكروها فتكون مرور الكرام، مما ينتج عن ذلك خلل في تقييم التجربة الفردية والجمعية هنا أو هناك.

وهذا الخلل السائد في مجتمعات العالم الثالث عمومًا ناجم عن الثقافة والوعي الرعوي والإقطاعي المعمم. فمثلاً يلاحظ أن قيام أي إنسان بعمله وفق مهامه الموكلة له كأنه "إنجاز" غير عادي، أو كأنه وجد كي لا يقوم بمهامه، وإن قام بها يعتبر خارج المألوف. وتجد الجهات العاملة معه، تنهال عليه بالمديح والتسبيح بإسمه، مع إنه لم يفعل شيئًا مميزًا، سوى إنه نفذ عمله. منطقي أن يكون هناك توازن بين الثواب والعقاب حتى تسود الموضوعية في المحاكمة لتجربة هذا القطاع الإنتاجي أو الوظيفي. ولكن المنطق المعمول به في الدول النامية، غالبًا ما يكون متطرفًا واقصويًا في الحالتين الإيجابية والسلبية. ففي تقيييم عمل المسؤولين لأنفسهم، أو تقييم مرؤوسيهم لهم تكون قائمة على المداهنة والمبالغة في الإيجابيات، ولكن في حال ترجل، أو أعفي وطرد، أو أقيل لسبب أو آخر من عمله ستجد نفس المداحين والمطبلين، هم انفسهم المتشدقون بعظائم الأمور على الأخطاء، التي ارتكبها ذات الشخص. اضف لذلك في حال قام موظف او عامل أو مسؤول صغير بعمل إيجابي من النادر أن تسمع عن إيجابياته، وإن سمعتها تسمعها من أناس موضوعيين، أو غير ذوي صلة بمكان العمل، أو لاعتبارات خاصة من هذه الجهة أو تلك.

وعادة يلجأ بعض المسؤولين لتضليل الذات والآخرين بسرد الإيجابيات، التي نفذها أو قامت بها مؤسسته، وقد يستحضر استطلاعات رأي غير موضوعية للتسلح بها كي يؤكد على نجاح تجربته، وتميزه، ويكرس نفسه في المشهد كأيقونة، ولولاه، أو بدونه ما كان يمكن للمؤسسة ان تمضي وتسير بالشاكلة، التي تسير فيها. مع ان الشواهد الدامغة، تقول لا يوجد شيء عبقري، أو مميز في فعل هذا الإنسان أو ذاك، وكل ما قام به، يمكن ان يقوم به شخص آخر، وبالتالي لا يحتاج الأمر إلى فرادة، واستثنائية في الحضور.

الرضا عن الذات مرض، لا يمكن أن يساعد الموظف صغيرًا أم كبيرًا على النجاح. من الواجب على الناس جميعًًا أن تثمن أي عمل إيجابي، ومن الضروري إبراز الجهد الإيجابي، وفي ذات الوقت كشف الأخطاء والثغرات والعيوب والنواقص في عمل هذا الإنسان، أو تلك المؤسسة، كي يتم تصويب الخطأ، أو الأخطاء والنواقص. ولكن إذا واصلت بعض الجهات والمؤسسات خاصة أو عامة، أشخاصا، أو مجموعات بالرضا عن الذات، وعدم الكشف عن المثالب والنواقص، واعتبار العمل العادي جدا "إنجازا"، فهذا سيترك أثرًا سلبيًا على مستقبل منظومة العمل ككل، ويهدد مكانتها ودورها، ويؤدي إلى خلل بنيوي في إدارة العمل.

الإنسان الواثق بنفسه إمرأة ام رجل لا يخشى الاعتراف بالنواقص، ويفتح عقله ووعيه للاستماع لأي موقف أو ملاحظة ليتعلم منها، ويراكم على الإيجابي. وجميعنا يعلم أن لا احد منا معصوم من الخطأ، فالكمال لله وحده، وأما العباد فهم خطاؤون، وشجاعتهم تكمن في الاستفادة من أخطائهم وعيوبهم، ليعمموا المنهجية التربوية الصحيحة، ويخدموا عملية البناء في المؤسسات وحتى في أوساط أسرهم بما يساعدها على التطور الإيجابي، وإحداث النقلة الموضوعية في هذا المجال أو ذاك، وحتى يعم التطور كلا البناءين التحتي والفوقي.
لذا لا يجوز لكائن من كان الرضا عن الذات، والابتعاد عن الوقوع في متاهة الغرور والاسترخاء المبالغ فيها عند هذا الشخص او ذاك، ومن الضروري التعامل مع وجهة النظر الأخرى بموضوعية، وليس بنزق وتطرف، وأيضًا القبول بتقسيم العمل وفق الاختصاصات، وعدم حصر المهمات المختلفة في يد واحدة، لأن هذا خطأ فادح، إن لم يكن خطيئة يهدد صيرورة العمل، ويندرج هذا في دائرة الغرور وإشكال الرضا عن الذات، وعلى اعتبار أن الآخرين ليسوا أهلا لتسلم هذه المهمة أو تلك، أو كأن المهمات فصلت لإنسان بعينه دون سواه، ويتناسى هذا الإنسان أو ذاك انه لا يوجد إنسان لا يمكن الاستغناء عنه، لذا وجب السعي الدائم لإحداث تغييرات جذرية لمحاربة الأخطاء والرواسب المضرة والمهددة لسلامة الإنسان والمؤسسة الخاصة او العامة المدنية والأمنية على حد سواء.