خيمت الكورونا بثقلها الوبائي على شعوب الأرض، ووقفت كالمتراس في وجه البشرية، تصدها، وتحول بينها وبين دورة حياتها الطبيعية، أوقفت عجلة الزمن، رغم أنه يسير برتابة قاتلة، يترنح نحو اليمين ونحو الشمال كالسكير الخارج من إحدى الحانات في ساعات الليل الكالحة الظلام، لا يعرف أين يمضي، وقد يتكوم حول جسده في زقاق عند حاوية النفايات، غارقًا في وحل إفرازات منافذه الأمامية والخلفية.
تنفث سمومها دون حسيب أو رقيب، تطارد لقاءات الأهل والأحبة، أغلقت أبواب البيوت والمدارس والجامعات والمعاهد والمعامل والمصانع والمزارع، حرمت الشباب من الجنسين من متعة الفرح بعقد قرانهم، وأغلقت الصالات، وأبواب المسارح والسينما والمكتبات ودور الأوبرا والمعارض والمهرجانات الشعبية والدولية، وحالت دون عقد المؤتمرات الثقافية والاقتصادية والسياسية، أوصدت أبواب المساجد والكنائس والكنس والمعابد في وجه المؤمنين من أتباع الديانات السماوية والمعتقدات الوضعية.
غيومها سوداء غطت سماء الدنيا والدول والشعوب، وكل يوم يمر تضاعف من حربها المجنونة على كوكب الأرض دون رحمة، أو شفاعة. حتى المستشفيات هاجمتها، وحولتها إلى كابوس بافتقادها لأجهزة التنفس، والأسرة، والطواقم الطبية القادرة والمؤهلة على رعاية المرضى، الذين تناثروا وتكدسوا في الممرات، وحيثما توفر متسع، بعد أن اختنقت الغرف والأجنحة بأعداد المرضى المحتاجين للرعاية. وألقت العباد فوق بعضهم البعض بأنفاس متقطعة، وصدور مذبوحة من السعال، وأعراض قاتلة. وبعد أن ضاقت المستشفيات بنزلائها تحولت البيوت والمدارس والكراجات إلى مآو جديدة لمن اجتاحته الجائحة بطريقها.
وعسكرت الكورونا في المقابر الكئيبة، تختطف الأحبة شيوخًا وعجائز، شيبًا وشبابًا، نساءً وأطفالاً، تلقي بالجثث في المحارق وباطن الأرض دون جنازات، ومن غير وداع يليق بإنسانية الإنسان، وبلا رثاء، وبلا موسيقى جنائزية. حملت أشباحها، التي تحوم في الطرقات والدروب والأزقة، والميادين والساحات والملاعب في المدن والبلدات والقرى، وفيافي الصحراء، وفوق الأنهار والبحار والمحيطات، وبين خطي الطول والعرض، وعند قطبي الشمال والجنوب سهام الموت البغيض، ونشبت أسنانها كأكلة لحوم البشر في أجساد الضعفاء من كل الأجيال، وألقت بالبشرية كلها على الأرض في حالة تواطؤ معلن مع وحوش الرأسمالية والمستعمرين دون أدنى رحمة، الذين رفعوا شعارًا عنصريًا فاشيًا بعنوان "مناعة القطيع" دون أخذ ما يلزم من الوقاية والرعاية الأولية لشعوبها بهدف سحق عظام كبار السن، ومن لا يقوى على البقاء، تنفيذًا لنظرية الإنجليزي توماس مالتوس (1766/1834).
أشعلت الكورونا الحروب والحرائق دون قنابل نووية ونيتروجنية، وبلا صواريخ وطائرات نفاثة تفوق سرعتها سرعة الصوت، ودون ميادين قتال، ولا حقول ألغام، وبلا دماء. زلزلت الأرض، وهدمت أعمدة الاقتصاد وبورصات المال، وأغلقت الموانئ والمطارات ومحطات القطارات، وهزت ركائز وقواعد ونظريات وضعية، وأماطت اللثام عن خواء وإفلاس الأنظمة السياسية المتربعة على عرش الكرة الأرضية، وساوت الجميع بالجميع، ووضعتهم أمام حقيقتهم المرة بلا مساحيق ورتوش.
تسيدت الكورونا المكان والزمان الحاضر، وأعادت الإنسان إلى نواميسه الأولى، وحدته مع ذاته، ومع الآخر في المأساة المشتركة، وفصلت بين الذات والذات، وشيدت عزلتها القاتلة على الرجال والنساء والأطفال ومن كل الأجيال. وأدارت عقارب الزمن للخلف بتعطيلها سيرورة وصيرورة المشهد العالمي، فأنطقت البشر بكل لغاتهم وثقافاتهم وميولهم الجادة والكئيبة، السعيدة والهزلية، السوداء والبيضاء، وزجت بملايين ومليارات الحكايا والقصص والروايات والمسرحيات. وفتحت أبواب الكرة الأرضية، وأشادت مسارحها التراجيدية الجادة، والكوميدية السوداء والتجريبية والغنائية في كل زاوية، وشارع، وبيت ومؤسسة، فمزج الناس حكايتهم وأساطيرهم وميثولوجياتهم القديمة والمعاصرة المستوحاة من الأدب الإغريقي والروماني والكونفشيوسي والهندوسي والأفريقي والعربي الإسلامي مع مأساتهم المضحكة المبكية الجاثمة على صدورهم وأنفاسهم ووعيهم ولا وعيهم. غنوا ورقصوا على جراحهم، هللوا وكبروا ورفعوا أيديهم للسماء لعلها تنقذهم من براثن الجائحة، أطلقوا العنان لمآسيهم بالنكتة والبسمة المتلازمة مع دموعهم حزنا على ذواتهم وأحبتهم وعلى سكان الأرض قاطبة، لعلهم ينتصرون على الجائحة الخطيرة. وسينتصرون بإرادة الوحدة الإنسانية وقوة الحياة والحضارة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها