على ناصية الذاكرة، تقف مستذكرًا أحداث زمن انسرب خلسة من عمرك. زمن كنت تُحَضّرُ فيه لمحو ذاكرتك، ونفيك من التاريخ، دون دراية منك. وتتحمل أنت بعضًا من مسؤوليته.

 النفي من التاريخ، هو الجزء المتمم للنفي الجغرافي، وهو الأخطر. يوم كنا أطفالا، على مقاعد الدراسة، وحتى بلغنا مقتبل الشباب. حفظنا تاريخ وجغرافية العالم، وبضمنها تلك الدول التي استعمرت بلداننا، وتركت ندوبًا في الروح، وبذور شقاق في الوطن الواحد.

وبقي تاريخنا مهملاً في المنهج المدرسي، وفلسطين لا مكان لها إلّا في حكايا الجدات.. وهذا ما عزز الشعور بالاختلاف بيننا وبين الشعب المضيف لنا.. له تاريخه وجغرافيته، وهو ليس نكرة.. ونحن فلسطينيون معترف بنا بالاسم فقط "لاجئون فلسطينيون".. المنفى ليس وطنا يخصنا، وفي الوقت ذاته، لم نُدرّس عن مكان اسمه فلسطين في كتب التاريخ والجغرافية.. فمن أين نحن إذن؟ أقول لأصدقائي النرويجيين، تكتبون في أوراقنا الثبوتية "بلا وطن"! كيف؟ هل جاءت بنا مركبة فضائية مجهولة المصدر، ألقت بنا هنا ثم ارتحلت!

درسنا التاريخ الفينيقي، على أنه لبنان فقط.. من اختراع للأبجدية إلى صناعة الزجاج والصباغ الأرجواني. ولم نُدرّس أن أسلافنا كنعانيون، كانوا يُدعون.. وماهية العلاقة بين الكنعانيين والفنيقيين، والساحل الواحد الممتد إلى وطن مسلوب.. ولماذا نحن أغراب أليس لنا وطن، وكيف تكون المنافي وطنا! هذا ما عمق هوة الاختلاف وعقدة الدونية، عند البعض. معذورون، فهم لا يعلمون إلا تاريخ نكبة وذل لجوء وعذابات منفى.

 تمّ تدريسنا تاريخ الحضارة الفرعونية، بكامل تفاصيلها. وحضارة بلاد الرافدين، سومر وبابل، مهد تاريخ بدء الكون، التي استوحت منها، التوراة أساطيرها ومروياتها.. وتم التعتيم على الحضارة الكنعانية. ولم تحظ بالشعبية، والانتشار مثل سائر الحضارات القديمة، التي عرفتها منطقتنا، وبقيت حبيسة كتب الباحثين والمؤرخين.

 لا يدري صغارنا والبسطاء، أن البيوت الحجرية الأولى في العالم، كانت في أريحا. استعمال المركبات الحديدية في الحروب، وهي ما يشبه الدبابات، في عصرنا، كان الفلسطينيون الكنعانيون أول من استعملها، وكذلك ازدهار الزراعة والصناعة ووو.. وتحفل التوراة بمظاهر تلك الحضارة، التي يتم تجاهلها وطمسها.. لأنها الدليل على عمق تجذرنا في الأرض والتاريخ.

 أما الحضارة الكنعانية، فكانت ديانة روحية، وعقيدتها السلام والمحبة، وخالية من العنف. وكان ملك أورشليم الكنعانية وكاهنها، ملكي صادق، موحدا وبارك النبي ابراهيم، الذي رفض دخول المدينة منتعلا حذاءه، لأنها مدينة مقدسة. والإنجيل رفع رتبة المسيح عليه السلام، إلى رتبة ملكي صادق الكنعاني، فمن يروي لأطفالنا وللبسطاء، شيئا عن حضارة وتاريخ أسلافنا، الذين أورثونا أرض اللبن والعسل؟ 

 حفظنا تاريخ نكبة، بكل ويلاتها، وروائح دم مجازرها المخثر، ومآسي رحيل لم نشهده.. وفي جانب مضيء في ذاكرة الكبار حفظنا ذاكرة وطن وبحر وبيارات، وزمن سعيد. وتاريخ مقاومة، واستشهاد، ودفاع عن وطن يشبه كل الأوطان، وله اسم وهوية كنعانية، تسكن صحائف مجيدة. 

ولكن نحن أيضا، أغفلنا تاريخنا الكنعاني، الممتد لآلاف السنين قبل الديانات السماوية. ومسخناه عن غير وعي منا، بسبب هيمنة الفكر الديني، الذي أصدر وثيقة ولادة جديدة، تختصر عمره بألف واربعمائة سنة، وهذا ما يتقاطع مع مصلحة الغزاة، لطمس عمقنا التاريخي.

المغتصب أبدى حرصه، على العمق التاريخي في المنطقة.. سطا على كل شيء.. وبضمنها، أسماء المدن والقرى، أورشليم هو الاسم الكنعاني للقدس، حبرون هو الاسم الكنعاني للخليل، عكو هو عكا.. ومعناه الرمل الحار، الذي يُصنّع منه الزجاج.. اسم راشيل، هو اسم آلهة كنعانية، راش إيل.. و" إيل"، بمعنى اله، وكان يركّب مع إسم آخر.

ليتنا درسنا تاريخنا وحضارتنا الكنعانية، من خلال العهد القديم.. الذي اعترف، بحضارة الفلسطينيين، وأن فلسطين، أرض اللبن والعسل، وهي أرض غربتهم. وهكذا وصفت التوراة الفلسطينيين.. "إن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جدا. وقد رأينا هناك الجبابرة، فكنا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم". 

يوم تجاوزت في تعليمي لطلابي، في مدارس "الأونروا"، بعض ما لا يخدم تاريخنا وقضيتنا، بل يخدم الفكر الترهيبي، اصطدمت مع بعض المفتشين والموجهين، من أصحاب الفكر الديني. بعد حين، ومع بروز المقاومة، تم إدخال تدريس تاريخ فلسطين، الذي بدأ عندهم مع بدء انكشاف المشروع الصهيوني. 

آن لتاريخنا الكنعاني التحرر من ملفات المؤرخين والباحثين، وجعله متاحا ومبسطا لعامة الناس، وهذه ضرورة ملحة في زمن تزوير وطمس التاريخ الحقيقي لفلسطين.