لا تخلو خطوةٌ من خطواتنا اليوميّةِ من ضرورةِ "إبرامِ" اتفاقيّاتٍ وتفاهماتٍ تستندُ إلى مبدأ تذليلِ العقباتِ واتخاذِ القراراتِ التوافقيّةِ كي نحافظَ على انتظامِ سيرِ الحياةِ على كلِّ الأصعدة. فعبورُ الشّارعِ بينَ حشودِ المشاةِ المهرولينَ نحو أهدافِهم المتواصعةِ والمصيريّةِ بحاجةٍ إلى التّفاهمِ اللحظيِّ مع الآخرينَ وتجنّبِ التصادُمِ معهم أو اعتراضِ طريقِهم، بما يضمنُ سلاسةَ العبورِ إلى الجانبِ الآخر حتّى لو اضطرِرنا إلى تعديلِ مسارِنا عدّةَ مرّاتٍ خلالَ ثواني معدوداتٍ هي الفترةُ التي يستغرقُها إنجازُ مهمّةِ العبورِ بينَ رَصيفَيْ مشاة. يكبرُ حجمُ وعددُ التّفاهماتِ التي نُجبَرُ على إبرامِها كلّما كبرَ حجمُ المهمّةِ التي نريدُ إنجازَها، ولا يوجدُ أيُّ مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ يمكنُ استثناؤهُ من ضرورةِ البحثِ عن نقاطِ الالتقاءِ لعقدِ التحالفاتِ التي تضمنُ لنا تأمينَ شروطِ تحقيقِ أهدافِنا، ينطبقُ هذا على حياتِنا في البيتِ وفي العملِ وبينَ الأصدقاء، حتّى يصلَ ذروتَهُ حين يتعلّقُ الأمرُ بالشّأنِ العامِّ وخاصّةً ما يتعلّقُ بالعملِ السياسيِّ، فاحترامُ ثقافةِ التوافقِ والتّحالفِ والحدِّ من نقاطِ الخلافِ يبقى شرطَ نجاحِ الأحزابِ والقوى السياسيّةِ في الحفاظِ على تماسكِها وتطبيقِ برامجِها والفوزِ بدعمِ الشّعبِ الذي يديرُ ظهرَهُ لكلِّ القوى السياسيّةِ التي تشغلُ نفسَها بأمورِها الخاصّةِ وتبدّدُ وقتَها وجهدَها في ترميمِ ما تهدمهُ خلافاتُها الدّاخليّةُ، سواءً كانت حقيقيّةً أو وهميّةً يختلقُها الأعداءُ والخصومُ ولا تستطيعُ هي تفنيدَها والتصدّي لها.

 

لم تكن "فتح" في يومٍ من الأيامِ حزباً حديديّاً يعملُ في المجالِ الدّاخليِّ بانتظامٍ كما تعملُ السّاعةُ السويسريّةُ، حتّى أنّ بعضَ المنحازينَ إلى فتح في السّراءِ والضرّاءِ يعنبرونَ ذلكَ ميزةً تنفردُ بها هذه الحركةُ التي ينطبقُ عليها وصفُ "السّهلِ المُمتَنع". ومع ذلكَ فقد حافظت فتح على وحدتِها وقاومت وأفشلت كلَّ محاولاتِ السيطرةِ عليها أو شقِّ صفوفِها. ويمكنُ الجزْمُ أنّ الفضلَ الأوّلَ في ذلكَ يعودُ إلى تعدّدِ الأفكارِ وما راكمتهُ هذه الميزةُ من تجاربَ تجعلُ إرثَ الحركةِ عملاً جماعيّاً يشعرُ كلُّ أبنائها أنّه ثمرةُ جهدهم، وبالتّالي هو ملكيّةٌ فرديّةٌ لهم لا يسمحونَ لأحدٍ بالتطاولِ عليها أو تجييرهِا لمصلحتِهِ. هذا الإحساسُ بأنَّ فتح حقٌّ خاصٌّ لكلِّ عضوٍ يعني بالضرورةِ أنّها ملكيّةٌ جماعيّةٌ لا يملكُ أحدٌ أو مجموعةٌ الحقَّ بسرقةِ جزءٍ منها مهما كانَ صغيراً و "تطويبَهُ" باسمهِا لأنّ هذا الجزءَ الصّغيرَ لبِنَةٌ من البناءِ الفتحويِّ الذي نملكهُ نحنُ جميعاً. ومن لا يستوعبُ هذه القاعدةَ فهو لا يفهمُ شروطَ الانتماءِ لهذهِ الحركةِ ولا يدركُ سرَّ بقائها رغم ما تعرّضت له من مخاطرَ ومؤامراتٍ، فمن حافظَ على فتح هم أبناؤها المستعدّون للتّنازلِ عن كلِّ ما يملكونهُ إلا عن حقّهم الفرديِّ والجماعيِّ بملكيّةِ فتح، لا لأنّهم بعشقونَ ذاتَهم، ولكنْ بسببِ قناعتهِم أن فتح هي طريقُهم نحو حريّةِ فلسطين واستقلالِها.

 

ليست الحركةُ مطالبةً بالتفرّغِ للردِّ على سيلِ الشائعاتِ والأكاذيبِ التي تغطّي ساحاتِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، فهذه مهمّةٌ مستحيلةٌ، إضافةً إلى كونِها مضيعةً للجُهدِ وتحقيقاً لأهدافِ من يقفونَ خلفَ هذهِ الحملاتِ الرّاميةِ إلى إعادةِ تشكيلِ الوعي الفلسطينيِّ برمّتِه وتشويهِ صورةِ الحركةِ التي تقودُ مشروعَ التّحرّرِ الوطنيّ. لا يعني هذا بالطبعِ التخلّي عن القيامِ بواجبِ التّواصلِ المستمرِ مع الشّعبِ وإبقائهِ على درايةٍ بما يدورُ في الحركةِ حتّى لو كان ذلك يستدعي الحديثَ بشكلٍ مفتوحٍ عن قضايا تخصُّ الوضعَ الدّاخليَّ لفتح، فليس في فتح ما يمكنُ اعتبارهُ شأناً خاصّاً بها، لأنّها ببساطةٍ حركةٌ جماهيريّةٌ رضيت لنفسِها أنْ تكونَ ملكاً للشّعبِ، ولا يجوزُ لها أنْ تلوذَ بالصّمتِ عندما يطلبُ منها شعبُها الإجابةَ على الأسئلةِ التي يرى أنَّ من حقّهِ الحصولَ على إجابةٍ عليها. وهنا لا بدَّ من الإشارةِ إلى سمةٍ أخرى رافقت حركةَ فتحت منذُ بداياتِها وظلّت تشكلُّ مصدراً للتذمّرِ والشكوى عندَ أبنائها، وهي الخللُ في الأداءِ الإعلاميِّ، حيثُ يبدو للمراقبِ أنّ الأمورَ تسيرُ "بقدرةِ قادرٍ" دون وجودِ خطّةٍ يلتزمُ بتنفيذِها المسؤولونَ عن واجبِ التواصلِ مع الشّعبِ بشكلٍ يوميٍّ بعيداً عن ردّةِ الفعلِ ومحاصرةِ الذّاتِ بقيودِ الدّفاعِ عن النفسِ وتكذيبِ الشائعاتِ المضلّلة التي تنهشُ جسدَ الحركةِ دونَ انقطاع. فما كان ممكناً وجائزاً قبل عشراتِ السنينِ لم يعدْ لهُ نفعٌ في عصرِ المعلوماتِ وفي ظلِّ التحديّاتِ التي تطرحُها وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ. ولا يجوزُ لحركةٍ بتاريخِ وتجربةِ فتح أن تكونَ عاجزةً عن مواكبةِ مقتضياتِ الإعلامِ العصريِّ وهي الحركةُ الرّائدةُ التي يلوذُ بها شعبُنا كلّما ضاقت بهِ السبُلُ، ومن لديهِ شكٌّ في ذلكَ فليعُدْ بذاكرتِهِ إلى احتفالِ أهلِنا في غزّةَ بالذكرى الخامسةِ والخمسينَ للانطلاقة.

 

*"فتح" حركةُ شعبٍ بأكملِهِ، ولأنّها كذلكَ فالواجبُ يفرضُ على قياداتِها وكوادرها وكلِّ أبنائها أن يبادروا إلى حمايتِها من الأخطارِ التي تهدّدُها، وفي مقدّمتِها خطرُ التّعامُلِ معها أو معَ جزءٍ منها وكأنّهُ ملكيّةٌ خاصّةٌ به. "فتح" ملكٌ لي ولكَ ولنا جميعاً.

 

١٧-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان