إيهاب الريماوي

"كان البرد عدوّنا اللدود، يهجمنا بثبات فيصيبنا إما بالرعدة وإما بالإسهال، ولا مجال لتفسير ذلك، في العادة البرد لا يسبب إسهالاً، لكن الخوف هو الذي يسببه، وعندما يحل البرد الشديد كانت أيدينا تستحيل قطعاً من الجماد، ومفاصلنا أيضاً، فلا نعود على فركها ولا حتى تحسس وجوهنا بها، كان البرد الشديد يمنعني من التفكير كأنه ثقاب كهربائي يحدث ثقوباً في الجلد".

هذه الكلمات مأخوذة عن رواية "تلك العتمة الباهرة" للكاتب الطاهر بن جلون، وهي تشابه كثيراً ما يصفه الأسير المحرر أحمد أبو عزام مصفر، عن ما يعانيه الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي في فصل الشتاء.

يعيش الأسرى داخل السجون على تعزيز شعورهم الداخلي بأن أجسادهم "ارتوت" بالدفء، ولا يعيشوا على الأمور المادية الملموسة، وهذا ما يتأقلمون معه ويقنعون أنفسهم به في أيام البرد القارس، فإذا افتقدوا هذا الشعور حتماً سيدخلون نوبات برد مؤلمة.

اعتقل مصفر، من قرية مزارع النوباني شمال غرب رام الله في أوج انتفاضة الأقصى عام 2002، في وقت شهدت فيه السجون اكتظاظا كبيرا مع تصاعد موجات الاعتقالات التي رافقت الانتفاضة، الأمر الذي انعكس على حياة الأسرى الذيين لم يكن بمقدورهم تنظيم حياتهم وإدارة شؤونهم اليومية.

"في المرحلة الأولى من الاعتقال عندما دخلت سجن الرملة كان الاكتظاظ شديدا، لم يكن هناك وفرة في الأغطية والملابس، وإدارة السجون منعت الزيارات وإدخال الحاجيات للأسرى، وقتها كان الأسرى يتقاسمون فيما توفر لديهم من أغطية، خاصة أن وسائل التدفئة معدومة داخل غرف الأسرى"، يقول مصفر.

في القرآن الكريم ذكرت رحلة الشتاء والصيف، وبالنسبة للأسرى فإن رحلة الشتاء كانت إلى السجون الساحلية، خاصة سجني عسقلان، وهداريم، اللذين يعتبران الأقل برودةً في فصل الشتاء، والأسير الذي ينقل إليه في هذا الفصل يعتر "محظوظ"، بالمقارنة مع البرد الكارثي في السجون الصحراوية كنفحة والنقب.

يحاول الأسرى التحايل على برد الشتاء، ودرجات الحرارة المتدنية في غرف السجن، حيث يقومون بإغلاق الشبابيك وباب الغرفة بالنايلون، ويحرصون على عدم ترك أي منفذ للهواء، ثم يقوموا بتشغيل "البلاطة" التي يستعملونها للطهي، لكن السجان لا يترك للأسرى مجالاً بأن يذوقوا ولو القليل من الدفء، فيعمل على إزالة النايلون عن الباب الذي يوجد فيه عدة فتحات لمرور الهواء.

رغم أن تسخين "البلاطة" لا يرفع من حرارة الغرفة، إلا أن الأسير عندما يشاهدها محمرة، فإن ذلك يولد لديه شعوراً داخلياً بالدفء.

"كنا نتحايل على البرد بممارسة الرياضة بمجهود عالٍ وارتداء ملابس ثقيلة، ثم نهرب إلى تحت الفرش، ولكن في أيام البرد الشديد فإن ممارسة الرياضة غير ممكنة، خاصة في السجون التي كان فيها الخيّام، حيث كان البرد ينخر في أجساد الأسرى، حتى أن بعضنا كان يقع مغشياً عليه في ساحة السجن عند ذهابه إلى الحمام" قال مصفر. وأضاف، يتحول "برش" أو سرير الأسير في الشتاء والذي يتكون من لوح حديدي وفرشة لا يتعدا سمكها 5 سم، إلى قطعة من الجليد، ويحاول الأسير الالتفاف على ذلك من خلال وضع بطانية تحت الفرشة، ثم يغطيها ببطانية أخرى هذا في حال توفر أغطية كافية، وهو أمر نادرٌ في العموم.

وتعمد ادارة السجون الى منع الأسرى من اصطحاب أي متعلقات معهم، سواء عند اعتقالهم أو نقلهم من قسم الى آخر.. فقط يسمح لهم بإدخال غيار داخلي، ومنشفة، وبدورها تقوم إدارة السجون بتزويد الأسير ببطانية لا تصلح للاستخدام الآدمي.

"أحياناً كنت أشعر بأن البرودة تنخر عظامي، كنت أرتدي كل ما توفر لدي من ملابس، فالصوبات ووسائل التدفئة غير موجودة، وعلى الأسير أن يُشعر نفسه بالدفء وأن لا يستسلم للأمراض، فالبرد يرافقك طيلة فصل الشتاء، ومن يسعفه الحظ يعيش في عسقلان وهداريم، كونها أقل برودة من السجون الأخرى"، يروي مصفر.

في بعض السجون كانت الإدارة تتعمد قطع المياه الساخنة عن الأسرى في فصل الشتاء، اتصبح عملية الاستحمام فيها أشبه بالمهمة المستحيلة.. فالحمام طوله متر وعرضه متر، وهو عبارة عن ثلاجة، وللحصول على المياه الساخنة عليك الضغط على كبسة كل 10 ثواني حتى تحافظ على استمرار تدفق المياه، فالدش يكون من الحديد ولمسه يصيبك بالقشعريرة لشدة برودته.

وتحارب سلطات الاحتلال الأسرى بشتى السبل، وتبحث بشكل دائم عن التلذذ في عذاباتهم، حيث تتعمد نقلهم في صباحات وليالي الشتاء الباردة بين السجون بواسطة الثلاجة الحديدية المتنقلة التي تدعى "البوسطة"، وتكون مقاعدها حديدية يكبل عليها الأسير من يديه وقدميه.

وعن رحلة وعذابات "البوسطة"، يقول مصفر: "في الصباح الباكر يخرج الأسير من غرفته وينتظر وصول البوسطة ويعزل في غرفة انتظار مقاعدها اسمنتية عدة ساعات، قبل أن يتم نقلك في رحلة كأنك ذاهب الى جهنم".

ويعتبر الأطفال وكبار السن من الأسرى أكثر الفئات معاناة في فصل الشتاء، إضافة إلى المرضى والجرحى، ولا تتعدى العلاجات المقدمة لهم أكثر من حبوب "الأكامول" المسكنة.

الأسير المحرر عباس مزاحم، من قرية عبوين شمال غرب رام الله الذي أمضى 16 سنة في سجون الاحتلال، يروي تفاصيل تنقله بعربة البوسطة في فصل الشتاء، حيث نقل من المستشفى الذي كان يخضع للعلاج فيه بعد أن أجريت له عملية زراعة بلاتين عند الساعة الثالثة عصراً، وتنقلت فيه هذه العربة بين عدة سجون وخضع للتفتيش عند كل محطة يتم الوقوف عندها، ووصلت فيه إلى السجن في اليوم التالي في حدود الساعة السابعة مساءً.

"قدرة الأسير على التحمل تعتمد على معنوياته وحالته النفسية، قديش أنت صلب قديش بتقدر تنجح في اجتياز هذه المرحلة"، يقول مصفر، الذي شدد على أن تجربة الاعتقال تجربة بطولية بجدارة تستحق تأريخها.