لا تملكُ فلسطينُ ثرواتٍ طبيعيّةً تجعلُ منها هدفاً للغزاة، لكنّها ظلت عبرَ التّاريخِ عُرضةً لموجاتٍ لا تنقطعُ من حملاتِ الغزو والاحتلالِ الأجنبيِّ، تارةً باسم الدّينِ وأخرى باسم الحفاظِ على مصالحِ القوى الكبرى التي تعاقبتْ على التحكّمِ بمصيرِ البشريّة. وقد أثبتت وقائعُ التاريخِ أنّْ كلَّ الامبراطورياتِ التي سعتْ لتكريسِ هيمنتِها على مقدّراتِ العالمِ كانت تعتبرُ السيطرةَ على فلسطينَ شرطاً لا بدَّ منهُ لتعزيزِ هيبتِها أمامَ خصومِها ومنافسيها. ويختصرُ القرنُ الماضي كلَّ ما تقدّمَ عبرَ تناوبِ السيطرةِ على فلسطينَ بين الامبراطوريةِ العثمانيةِ وبريطانيا العظمى ثمَّ أمريكا عبرَ دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليّ، فبينما استخدمَ العثمانيّونَ المبرّرَ الدينيَّ لوجودِهم في فلسطينَ، فإنَّ بريطانيا العظمى لم تتورّع عن الإفصاحِ عن هدفِ "انتدابِها" وهو تسليمُ وطنِنا إلى الغرباءِ، بينما أكملت "الامبراطوريةُ الأمريكيّةُ" رعايةَ وحمايةَ الاحتلالِ الاسرائيليِّ لتشكّلَ مع الدولةِ الصهيونيّةِ تحالفاً لا مثيلَ لهُ في التّاريخِ، تحتلفٍ أعمى قائمٍ على منطقِ القوّةِ والتضليلِ والتنكّرِ لأبسطِ قواعدِ القانونِ الدّوليِّ ومبادئ العدالةِ والأخلاقِ. هذا هو التجسيدُ الحقيقيُّ للرّباطِ في فلسطينَ، فما دامت فلسطينُ عرضةً للغزوِ الأجنبيِّ المتواصِلِ فإنَّ استمرارَ وجودِها لم يكنْ ممكناً لولا إرادةِ المقاومةِ التي تَسِمُ شعبَها وتجعلُ منهُ قادراً على البقاءِ بينما يعبرُ الغزاةُ من فلسطينَ ويذهبونَ إلى النسيانِ، وإنْ صمدوا في ذاكرةِ التّاريخِ فلا مكانَ لهم سوى صفحاتِه السّوداء.

 

مقاومةُ المشروعِ الاستيطانيِّ الصهيونيِّ في فلسطينَ هي امتدادٌ طبيعيٌّ لمقاومةِ كلِّ ما سبقَهُ من حملاتِ الغزوِ. قد تتبدّلُ أشكالُ المقاومةِ ووسائلُها، لكنَّها لا تفقِدُ مبرّراتِها ولا تتنازلُ عن حقِّها في الحفاظِ على تراثِ المقاومةِ الذي تركهُ لنا الآباءُ والأجدادُ. ليسَ لدى الفلسطينيِّ شكٌّ في مدى قوّةِ وجبروتِ أعدائهِ، لكنَّ هذا هو مصدرُ ثقتِهِ بالمستقبلِ وليسَ سبباً لبثِّ الخوفِ والتّثاقُلِ إلى الأرضِ، وإذا كانَ هناكَ من يجبُ أنْ يشعُرَ باليأسِ فهُم أعداءُ شعبِنا، ويكفي أنْ يتفكّروا في مشروعِهم المدعومِ بقوّةٍ هائلةٍ تخشاها دولٌ عظمى، لكنّها لم تجبرْ شعبَنا يوماً على تقبّلِ الخضوعِ أو رفعِ رايةٍ بيضاء. ولعلَّ السنتَينِ الأخيرَتَينِ مثالٌ حيٌّ لعجزِ الأعداءِ عن فرضِ منطقِ القوةِ والابتزازِ كوسيلةٍ لإجبارِ شعبِنا على القبولِ بمشروعِ "صفقةِ القرنِ"، رغمَ الخللِ الجسيمِ في موازينِ القوى في معركةِ الدّفاعِ عن الثوابتِ الفلسطينيّةِ. لقد خاضَ شعبُنا وقيادتُهُ معركةَ إفشالِ الخطّةِ الأمريكيّةِ-الإسرائيليّةِ ولا زالَ يخوضُها وحيداً، بينما شَغلَ العربُ ودولُ الجوارِ و "قوى المقاومةِ" أنفسَهم بالصّراعاتِ الدّاخليّةِ أو بترسيخِ دعائمِ سيطرتِهم على أجزاءَ من الأوطانِ التي تمَّ تمزيقُها في ظلِّ شعاراتِ "المقاومةِ" الزّائفة.

 

لقد ثبتَ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ أنَّ من يريدُ فعلاً ممارسةَ المقاومةِ الحقيقيّةِ للسياسةِ الأمريكيةِ-الإسرائيليّةِ فلا طريقَ أمامَهُ سوى دعمِ صمودِ شعبِنا في وطنِهِ والإقلاعِ عن بيعِ الأوهامِ بإمكانيةِ تحريرِ القدسِ عبرَ تَعْز أو بنغازي أو إدلِب أو من خلالِ سَلْخِ غزّةَ عن الوطنِ. هذا ما تؤكّدُهُ وقائعُ الحروبِ الدّائرةِ حولنا والتي كانَ آخرَ فصولِها ما شهدناهُ من مواجهةٍ غير متكافئةٍ بنتائجها بين إيران وأمريكا فوقَ جسدِ العراقِ. فلا مجالَ للمقارنةِ بين اغتيالِ قاسم سليماني وبين إطلاقِ عددٍ من الصواريخِ على القواعدِ الأمريكيّةِ في العراقِ، والتي كانت نتيجتُها الأهمُّ إسقاطَ الطائرةِ الأوكرانيّةِ فوق طهرانَ عن طريقِ الخطأ. لقد فهمَ الشعبُ الإيرانيُّ قبلَ غيرِهِ أنَّ كرامتَهُ قد أُهدِرتْ، وهو الذي رفضَ الاعتداءَ الأمريكيَّ الذي راحَ ضحيّتَهُ واحدٌ من أهمِّ أعمدةِ النظامِ، لكنَّ سقوطَ هذا العددِ من الضحايا في كارثةِ الطائرةِ يعرّي خللاً بنيويّاً في النّظامِ الحاكمِ، ويكشفُ زيفَ الادعاءِ باستعدادِهِ لمواجهةِ اعدائه. لقد سارعَ الشبابُ الإيرانيّونَ إلى التظاهرِ مطالبينَ بإحداثِ تغييرٍ جوهريٍّ في بلدِهم يمكّنهم من التفرّغِ لاستغلالِ طاقاتِهِ وثرواتِهِ لبناءِ دولةٍ عصريةٍ تهتمُّ بمواطنيها وتكفُّ شرَّها عن جيرانِها. فهل تسارعُ القوى التي رهنت قرارَها وولاءها لمصالحِ النظامِ في إيرانَ إلى إعادةِ النظرِ في أولويّاتِها لتهتمَّ هي الأخرى بشؤونِ بلدانِها بدلاً من القيامِ بدورِ الأداةِ المجانيّةِ أو المدفوعةِ الأجرِ لتنفيذِ الأهدافِ الإيرانيّة المتناقضةِ مع مصالحِ شعوبِ المنطقةِ وفي مقدّمتِهم الشعبُ الإيرانيُّ؟

 

*من أرادَ الانضمامَ إلى "محورِ المقاومةِ" الفعليِّ فما عليهِ سوى دعمِ الشّعبِ الفلسطينيِّ في معركتِهِ ضدَّ المشروعِ الأمريكيِّ-الإسرائيليِّ، فساحةُ الصّراعِ ضدَّ هذا المشروعِ هي أرضُ فلسطينَ، أما تبديدُ طاقاتِ الأمةِ في حروبِ الطوائفِ فهذا اصطفافٌ سافرٌ إلى جانبِ معسكرِ الأعداء. 

 

١٢-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان