لمْ يشهد التاريخُ الحديثُ حالةً شبيهةً بالقضيّةِ الفلسطينيّةِ، فهي استثناءٌ في كلِّ تفاصيلِها، ومهما كانت الزّاويةُ التي ننظرُ منها فإنَّ المفاجأةَ الأولى هي عدمُ وجودِ سابقةٍ يمكنُ القياسُ بها أو استعارةُ قوانينِها لتسعفَنا في فهمِ تعقيداتِ هذهِ القضيّةِ ولتمكّننا منَ استقراءِ مستقبَلِها. لا شكَّ أنَّ عدالةَ هذهِ القضيّةِ هي واحدةٌ من المسلّماتِ التي حافظت على استمراريّتِها ودوامِ حيويّتِها، ولا جدالَ كذلكَ في أنَّ عنادَ الشعبِ الفلسطينيِّ وتمسّكَهُ بالحقِّ الملازِمِ لعدالةِ قضيّتِهِ هو الذي يضمنُ شروطَ بقائها قضيّةً لا يمكنُ تجاهُلُها رغم الضجيجِ الذي يعلو بينَ فترةٍ وأخرى نتيجةً لما يتمُّ افتعالُهُ من أزماتٍ للتغطيةِ عليها وحجبِها عن أعينِ العالم. وحتى تكتملَ الصّورةُ فإنَّ الأمانةَ تقتضي إبرازَ الدّورِ المحوريِّ الذي اضطلعت وتضطّلعُ به منظّمةُ اْلتحريرِ الفلسطينيّةُ في الجمعِ بين عدالةِ القضيّةِ الوطنيّةِ وتسخيرِ طاقاتِ شعبِنا لمواصلةِ التمسّكِ بأهدافِهِ التي تشكّلُ نتيجةً بديهيّةً ورديفاً لتلكَ العدالة.

 

ليسَ الانقلابُ الذي قامت به حركةُ "حماس" عام ٢٠٠٧ حدثاً عادياً في مسيرةِ شعبِنا، وليسَ له شبيهٌ في تاريخِ الشّعوب التي خاضت معاركَ التحرّرِ الوطنيِّ. نعلمُ أنَّ الخلافاتِ والانقساماتِ وحتّى الانشقاقاتِ ظاهرةٌ ملازمةٌ لحركاتِ التّحرّرِ، لكنَّ انقلابَ "حماس" يتجاوزُ كلَّ ما عهدناهُ من ظواهرِ التمرّدِ والعصيانِ. إنّهُ انقلابٌ جرى في ظلِّ استمرارِ الاحتلالِ وقبلَ إنجازِ مشروعِ التحرّرِ الوطنيِّ، ورغمَ أنَّ غزةَ التي اختطفتْها "حماسُ" بانقلابها تخلو من مظاهرِ الاحتلالِ الاسرائيليِّ المباشرِ فإنَّها تخضعُ للسيطرةِ الإسرائيليةِ التي تتحكّمُ بكلِّ تفاصيلِ الحياةِ اليوميّةِ في هذا الجزءِ من أرضِ الدّولةِ الفلسطينيّةِ الخاضعةِ للاحتلالِ حسبَ قراراتِ الشرعيةِ الدّولية. وهذا يقودُ إلى نتيجةٍ واحدةٍ، وهي أنَّ هذا الانقلابَ هو تمرّدٌ داخليٌّ على السُّلطةِ الشّرعيّةِ ما كانَ لهُ أنْ يتمَّ دونَ حمايةِ ورُعايةِ الاحتلالِ الذي تلاقتْ مصالحهُ مع مصالحِ الانقلابيّينَ في ضربِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ وإضعافِ القيادةِ السياسيّةِ للشعبِ الفلسطينيّ. نعلمُ أنَّ لدولةِ الاحتلالِ والحركةِ الانقلابيةِ أهدافَهُما الخاصّةَ، لكنَّ تقاطعَ تلكَ الأهدافِ في أكثرَ من مفصلٍ هو الذي جعلَ استمرارَ الانقلابِ وتثبيتَ دعائمهِ مصلحةً حمساويةً-إسرائيليّةً مشتركة.

 

لم يشهدْ تاريخُ الانقلاباتِ وضعاً كالذي رافقَ وما زالَ يرافقُ الانقلابَ في غزّة، فالسّلطةُ التي انقلبت عليها "حماسُ" وتصرُّ على الطعنِ بشرعيّتها هي التي تؤمّنُ كلَّ ما يلزمُ القطاعَ المختطَفَ من مستلزماتِ استمراريّةِ تقديمِ الخدماتِ الضروريةِ في قطاعاتِ الصّحةِ والتّعليمِ والطّاقةِ وغيرِها. وليسَ سرّاً أنَّ السيّدَ الرئيسَ أبو مازن هو الذي يصرُّ على مواصلةِ قيامِ السُّلطةِ بواجبِها تجاهَ أهلِنا في غزَّةَ، مثلما أنّهُ ظلَّ مؤمناً بضرورةِ إنهاءِ الانقسامِ الناتجِ عن الانقلابِ ولم يدّخرْ جُهداً أو يُهدِرْ فرصةً أو يتركْ باباً إلا طرَقَهُ في سَعيِهِ لثَنْيِ قيادةِ "حماس" عن غيِّها وإعادتِها إلى رُشدِها. وليست دعوةُ الرئيسِ إلى إجراءِ الانتخاباتِ التشريعيّةِ في أراضي الدولةِ الفلسطينيّةِ المحتلّةِ سوى فصلٍ جديدٍ من فصولِ محاولاتِهِ لإخراجِ الشّعبِ الفلسطينيِّ من هذا الوضعِ الخطيرِ الذي تسبّبَ بهِ الانقلابُ، لكنَّ "حماس" التي تتظاهرُ بمجاراةِ دعوةِ الرئيسِ للانتخاباتِ وتحاورُ ممثّليهِ ومبعوثيهِ وتسلّمَهم ردودَها الملغومةَ، إنما تستخدمُ ذلكَ للتغطيةِ على ما تمارسُهُ فعليّاً على الأرضِ، والذي تجلّى بشكلٍ سافرٍ في فضيحةِ إنشاءِ القاعدةِ العسكريّةِ الأمريكيّةِ التي تنتحلُ صفةَ مستشفى. هكذا تعاملت "حماسُ" مع كلِّ مبادراتِ السيّدِ الرئيسِ منذُ اتّفاقِ مكّةَ مروراً بالدّوحةِ ووصولاً إلى تفاهماتِ القاهرةِ التي تنصّلتْ منها ولم تتعاملْ معها سوى كجسرِ عبورٍ اضطراريٍّ سرعانَ ما تجتازُهُ لتعودَ إلى محاولاتِها الهادفةِ إلى ترسيخِ انقلابِها والمضيِّ قُدُماً في مشروعِها لفصلِ غزّةِ عن الوطنِ بشكلٍ نهائيٍّ، وهو مشروعٌ يتلاقى مع "صفقةِ القرنِ" التي يرفضُها شعبُنا وقيادتُهُ رغمَ كلِّ ما يتعرّضونَ لهُ من ابتزازٍ وقرصنةٍ وحصار.

 

*مرّةً أخرى تعضُّ حماس اليدَ الممدودةَ لإخراجِها من وحْلِ انقلابِها، وتختارُ إطلاقَ يدِ العَبثِ الأمريكيِّ في السيادةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ. وسيكتبُ التّاريخُ أنَّ حماس التي أدخلت الانقلابَ إلى القاموسِ الفلسطينيَّ قد توّجت انقلابَها بجريمةِ إدخالِ القواعدِ الأمريكيّةِ إلى أرضِ فلسطين.

 

٢-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان