لا أحدَ يستطيعُ أن يجاري إدارةَ ترامب في اتّخاذِ القراراتِ التي تتناقضُ مع أبسطِ قواعِدِ المنطِقِ والأخلاقِ والسّلوكِ السويِّ. صحيحٌ أنَّ نصيبَ فلسطينَ من هذهِ القراراتِ يمكنُ وصفُهُ بنصيبِ الأسدِ، لكنّنا لسنا وحيدينَ في "نادي" المُستَهدفينَ والمتضرّرينَ من السياسةِ الأمريكيّةِ التي يسيُّرها هواةٌ لا تجربةَ لهم سوى الانتماءِ لعائلةِ الرئيسِ أو لمجموعةٍ ضيّقةٍ من المقرّبينَ من دائرةِ مصالحِهِ التّجاريّةِ، وهي دائرةٌ تضيقُ باستمرارٍ، لكنَّ النّواةَ الصلبةَ لها لا تتغيّرُ ولا تتبدّلُ بل تبقى محصورةً في أيدي مجموعةٍ من الذينَ يعتبرونَ المصلحةَ الإسرائيليّةَ كما يفهمونَها هُم أهمّ من مصالحِ أمريكا ذاتِها، وهم في ذلك يشكّلونَ ظاهرةً فريدةً، إذْ لم يشهد تاريخُ العلاقاتِ الدّوليّةِ حالةً تشبهُ حالةَ الهوانِ الذي وصلت إليهِ الادارةُ الأمريكيّةُ في علاقاتِها مع دولةٍ بحجمِ دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليّ، حتّى في عصرِ الانتدابِ والمندوبين السّامينَ أو في جمهوريّاتِ الموز التي كان يديرُها ضابطٌ صغيرٌ من وكالةِ المخابراتِ المركزيّةِ الأمريكيّة. ففي الوقتِ الذي تدّعي فيهِ الادارةُ الأمريكيةُ التزامَها بالمصالحِ الأمريكيّةِ العليا وهي تنسحبُ من الاتفاقياتِ الثنائيّةِ والدّوليةِ، لكنّها لا تسوقُ مبرّرًا مقنعًا واحدًا يسوّغُ قراراتِها المتتاليةِ ضدَّ حقوقِ الشّعبِ الفلسطينيِّ، ولا يجدُ المراقبُ سببًا واحدًا لهذا الانحدارِ الأخلاقيِّ سوى تغليبِ المصلحةِ الانتخابيّةِ الآنيّةِ لترامب ونتانياهو على المصالحِ الأمريكيةِ وعلى الأمنِ والسّلمِ الدّوليّين.

 

مضى عامانِ على قرارِ ترامب نقلَ سفارةِ بلادِهِ من تل أبيب إلى القدسِ وإعلانِهِ الاعترافَ بالمدينةِ المقدّسةِ عاصمةً لدولةِ الاحتلال، ومع ذلكَ لم يتغير الوضعُ القانونيُّ للقدسِ ولم تهروِلْ دولُ العالمِ للّحاقِ بأمريكا وتبنّي سياستِها العبثيّةِ. والأهمُّ من ذلكَ أنّ تطاولَ أمريكا على الحقِّ الفلسطينيِّ في القُدسِ لم يزحزح الجانبَ الفلسطينيَّ الرّسميَّ والشّعبيَّ عن موقفِهِ الرّافضِ لهذا التطاولِ والمصرِّ على الثباتِ في الوطنِ والدّفاعِ عن عروبةِ القدسِ والتصدّي لمحاولاتِ المحتلِّ التي تسعى إلى الاستفادةِ من الغطاءِ الأمريكيِّ لتقومَ بتجريدِ المدينةِ من هويّتِها. أمّا على المستوى الدّوليِّ فلا تجدُ أمريكا حليفًا لها سوى بعضِ الجزرِ النائيةِ في المحيطاتِ والتي يعيشُ اقتصادُها على مخلّفاتِ القواعدِ العسكريّةِ الأمريكيّة. وما زالت الدّولُ المؤثّرةُ التي تحترمُ تاريخَها ودورَها في المنظومةِ الدوليّةِ متمسّكةً بموقفِها الملتزمِ بالشرعيةِ الدّوليّةِ وبقواعدِ المنطقِ والأخلاق.

 

نعلمُ أنَّ باستطاعةِ أمريكا أنْ تتّخذَ ما تشاءُ من القراراتِ مهما كانَ حجمُ الخطرِ الذي تجرّهُ على شعوبِ العالَمِ، لكنّ التجربةَ في التّعاملِ مع الشّأنِ الفلسطينيِّ قد أثبتت أنَّ أمريكا تفتفدُ إلى القدرةِ على فرضِ وجهةِ نظرِها وتحويلِها إلى حقائقَ عندما تصطدمُ بموقفِ الإجماعِ الوطنيِّ. من هنا يجبُ التّعاطي مع الإعلانِ الأمريكيِّ الذي يعطي الشّرعيةَ للمستوطناتِ الاستعماريةِ الإسرائيليّةِ كمحاولةٍ للإيحاءِ بأنَّ لهذهِ الإدارةِ العاجزةِ عن حمايةِ رئيسها من الخضوعِ لإجراءاتِ العزّلِ التي يتعرّضُ لها في "الكونجرس" قدرةً على المبادرةِ وإنقاذِ حليفِها وشريكِها نتانياهو من ورطتِهِ التي ستودي به إلى السّجن. نعلمُ أن المستوطنينَ والمستوطناتِ يخنقونَ شعبنا ويمنعونَ عنهُ الماءَ والهواءَ، لكنَّ القرارَ الأمريكيَّ المنحازَ إلى غلاةِ المستوطنينَ لنْ يغيّرَ من طبيعةِ الاستيطانِ بصفتهِ عملاً عدوانيًّا يتناقضُ مع القانونِ الدّوليِّ، ولن تجدَ أمريكا من يتبنّى موقفَها لا من العربِ ولا من غيرِهم. في المقابلِ علينا التمسُّكُ بوحدةِ الموقفِ بين القيادةِ والشّعبِ لرفضِ العدوانِ الأمريكيِّ على حقوقِنا، فلا يمكنُ إعطاءُ الشرعيةِ للاستيطانِ أو مصادرةُ الحقِّ الفلسطينيِّ في القدسِ ما دامَ شعبُنا مدافعًا عن ثوابتِهِ ومتمسّكًا بحقّهِ في مقاومةِ الاحتلالِ والاستيطانِ عبرَ مقاومةٍ شعبيّةٍ فاعلةٍ تشاركُ فيها كلُّ فئاتِ الشّعب وتؤدّي إلى تحويلِ الاستيطانِ والمستوطنينَ إلى عبءٍ ثقيلٍ ومُكلفٍ لدولةِ الاحتلال. فالحقُّ الفلسطينيُّ لا يخضعُ لقراراتٍ مغامرةٍ تتخذُها إدارةُ ترامب الغارقةُ في أزماتِها الدّاخليّةِ، وإنما هو ملكٌ لشعبِنا طالما ظلَّ متمسّكًا بوحدةِ الموقفِ وبالإصرارِ على الصمودِ في وطنهِ ومقاومةِ الاحتلالِ والاستيطان.

 

*شعبُنا وراءَ الخطِّ الأخضرِ هو صاحبُ الأرضِ ووريثُ تاريخِها وليس "طابورًا خامسًا" كما يدّعي نتانياهو وبقيّةُ قادةِ الدّولةِ الفاشلةِ. والمستوطنونَ ليسوا سوى امتدادٍ للاحتلالِ وذراعٍ لهُ لفرضِ الأمرِ الواقِعِ وتكريسِ الوجودِ اللاشرعيِّ في أرضِ فلسطين. شعبُنا وراءَ الخطِّ الأخضرِ باقٍ في وطنِه، والاستيطانُ والمستوطنونَ الغرباءُ إلى زوال.

 

٢١-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان