أراد الشهادة وكان له ما أراد. عاد وانغرس في تراب أرضه الطيبة. لم ترهبه المدافع المطلة على نوافذه، بعد أن دمر بالكامل مبنى المقاطعة، وأبقي له، غرفة مزنّرة بالرعب والخراب والموت والابتزاز. إنه الشهيد والقائد الرمز " أبو عمار".
الجيل الذي يسمى جيل النكبة، تربى وتفتح وعيه الفلسطيني، على صوت العاصفة، يوم انطلاقتها في 1/1/1965.  وتحولت المخيمات المعزولة المضطهدة، الى معسكرات، جذبت إليها أحرار العالم من كل حدب وصوب، وبضمنهم المناضلون العرب. وانقلبت دورة الزمن، وجموع اللاجئين تحولوا إلى قوافل ثوار وشهداء.. ثم كانت منظمة التحرير الفلسطينية، بكافة فصائلها، الجامعة التي وحدت نضال الفلسطينيين، وقد دفعوا ثمنها غاليا، من دمهم، ودمار بيوتهم، ومجازر ومقابر جماعية، ومن أنواع تهجير وترحيل وإبعاد،  الى أن انتزعت الاعتراف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. أحيت حركة فتح بقيادة الشهيد الرمز، الروح الحماسية والعزة  لدى شعبها، وكانت العمود الفقري لسائر الفصائل المنضوية تحت لواء المنظمة.
هل أحكي حادثة المرأة الفلسطينية بثوبها الوطني المطرز، واقتحامها الجموع حول أبو عمار، في أوسلو، على أثر توقيع الاتفاقية المعروفة باسمها ؟ كانت المرأة تبكي بحرقة، قالت له شيئا، فحضنها وتنحى بها جانبا، وهمس لها شيئا.. لم تبح المرأة بما دار بينهما من همس، رغم فضول  وملاحقة الصحافة النرويجية، ونشرها صورهما معا. لكنها باحت لي بعد مرور زمن طويل. في حينها، قالت له: "بعتنا يا ابو عمار" ؟ همس لها : وعدي لكم أن أعيدها شبرا شبرا.. لكن الشهادة كانت قدره ومصيره..
ليس هدفي كتابة شيء بمناسة ذكرى استشهاد القائد " أبو عمار "، فالأقلام سوف تبكيه، وتتحدث عن نضالاته، وعن علاقاته مع الأصدقاء، وحب شعبه له، وكل الكلام سوف يكون مكرورا.. لكني سأكتب بعضا من وجع يحمله كثيرون، بسبب منع السلطات في غزة، إحياء ذكرى استشهاده! فبأي حق تمنع سلطة غزة، إحياء ذكرى مناضل وشهيد فلسطيني، تُرفع له قبعات أحرار العالم لسيرته النضالية. إن القفز عن التاريخ النضالي منذ الخمسينيات، للشهيد القائد، هو خيانة وطمس لتاريخ وعذابات الشعب الفلسطيني، لعقود طويلة، وذلك لصالح مشروع ديني، ولا نودّ سؤال إخوتنا في غزة، أين كنتم في ذلك الوقت.
 ويأتي قرار المنع، في ظل الحديث عن الإنتخابات، واحتدام التصريحات عن المصالحة، التي غدت خرافة لم تعد تعني الفلسطيني في شيء، رغم الألم الذي تسببه. وفي وقت، لم تعد طروحات سلطة غزة، تختلف عن واقع السلطة الوطنية في رام الله، من استعداد للمفاوضات وهدنة طويلة الأمد، والتعهد بوقف أعمال المقاومة. فعلام الاختلاف إذن إن لم يكن على السلطة والمناصب، والإمساك بأوراق المفاوضات لتكون بديلا للسلطة الوطنية !
ويستمر الخلاف الفلسطيني/ الفلسطيني المعيب، في ظل أوضاع قاسية، ومجازر صارت تُرتكب بالمفرق، إذ لم تعد مجازر" الجملة"، مقبولة في ظل الانفتاح التكنولوجي، ففي كل يوم وفي أكثر من مدينة وقرية، يقع ضحايا أبرياء، لأسباب مجهولة، ويبقى مرتكبوها مجهولي الهوية. قتل النساء، حوادث سير، شهداء لقمة العيش ورغيف الخبز.. موت مجاني ويومي، هو مجزرة "بالمفرق".. ولو جمعت لكانت مجزرة لا تقل بشاعة عن سائر أخواتها من المجازر الشنيعة.. ثم مضايقات الإحتلال للضفة الغربية وغزة، هي مجازر نفسية أيضا.. وفي القدس مجازر هدم البيوت، وجريمة التهويد وتغيير معالم المدينة المقدسة.
قرأت خبر دعوة أميركا، لعدد من الصحفيين الفلسطينيين لزيارتها، وكانت غالبيتهم من قطاع غزة. لا نشكك في وطنية هؤلاء المدعوين، لكن الأمر ليس بهذه البراءة، فتجنيد الأقلام هو جزء من سياسة استلاب العقل الفلسطيني والعربي. فهذه ليست اول مرة يتوجه فيها وفد إعلامي عربي وفلسطيني، لأميركا.. فقبل سنوات قام وفد من الإعلاميين العرب بزيارة مماثلة، واستقبلتهم هيلاري كلينتون. وبعد الاستقبال الحافل وتلقي الأوامر، انتفخت الجيوب بالأوراق الخضراء، وهات يا أكاذيب وافتراءات وتزوير حقائق تاريخية، لو لم نعايشها لصدقنا أكاذيبهم.. الى شعبي في فلسطين .. الحق الحق أقول لكم، أن الخلاف أضحى عارا وليس عيبا فقط، قضيتنا سياسية وليست دينية، لنتخل عن حلم الإمارة الدينية، وحدها فلسطين جامعتنا المقدسة.