في كلّ عام أجد من الصعوبة الكتابة عن ياسر عرفات في ذكرى رحيله، مصدر الصعوبة عند الرغبة في الكتابة عن الأخ أبو عمّار هو التداخل المٌربك بين المشاعر والأفكار.
في كل مرة أجد نفسي أرغب أن أبدأ بالكتابة عنه قائلاً: تتداخل الأفكار وترتبك المشاعر أو تتداخل الأفكار والمشاعر أو تتدافع الأفكار وتتداخل المشاعر فمنذ خمسة عشر عامًا وأنا أجد نفسي أرغب بأن أستخدم نفس البداية للكتابة عن ياسر عرفات.
لماذا تتداخل الأفكار والمشاعر!!!
 لأننا وببساطة ومنذ يوم 11-11-2004، ونحن نعيش قصة حب كبيرة وعظيمة لياسر عرفات.
قصة الحب لياسر عرفات تشمل الكل الفلسطيني وأظنها تشمل مؤيديه ومعارضيه وهو حي، قصة الحب لياسر عرفات تشمل كل فلسطيني بوصلته فلسطينية تُشير فقط للقدس وينطبق الأمر على كل عربي، قصة الحب لياسر عرفات تشمل كل فلسطيني مؤمن بالحق وبالحرية وحتمًا كل حُرٍّ لم يبع نفسه للشرق أو للغرب وحافظ على هويته وإنسانيته.
عند الكتابة عن ياسر عرفات من الطبيعي أن تتداخل المشاعر مع الأفكار بل من الطبيعي بأن تنتصر المشاعر على الأفكار فقد كنا وسنبقى نحب ياسر عرفات القائد وياسر عرفات المؤسس وياسر عرفات الأب وياسر عرفات الإنسان وحتمًا كنا وسنبقى نحب ياسر عرفات الرئيس الشهيد.
والأمر الأغرب الذي يربكني عند الرغبة في الكتابة عن ياسر عرفات هو الزمن أو التوقيت فهناك تداخل غريب بين الماضي والحاضر والمستقبل فتارةً أكتب عنه بصيغة الماضي ومرة أخرى بصيغة الحاضر والأغرب بأنني قد أكتب عنه بصيغة المستقبل.
بالمختصر تبيّن لي بأن ياسر عرفات لا يمكن اعتباره ماضيًا حيث أنه ما زال فينا حاضرًا بحب فهو حاضر وما زلنا ننتظر ياسر عرفات مستقبلاً لينهض بنا وليتقدّم بشعبنا للاستعادة حقوقه التاريخية فهو مستقبل، ببساطة ياسر عرفات هو الماضي والحاضر والمستقبل معًا.
وطبعًا هناك تداخل عجيب آخر بين مفهوم الغياب والحضور فياسر عرفات ورغم غيابه الجسدي فهو لم يغب عنا بل إنَّ الغريب في الأمر بأنَّ حضوره بات أكثر وأكبر وبات محل إجمـــــــــــاع من اتّبعوه ومن عارضوه.
وقد قيل لنا دومًا في وصف أبو عمار من معارضيه ( إنّنا نختلف معه ولا نختلف عليه) ومع ذلك فلقد أُتهم أبو عمار دومًا من قبل معارضيه بأنه ديكتاتور يتحكّم بالقرار الوطني الفلسطيني ولقد اتُّهَم ياسر عرفات دومًا ومن قبل معارضيه (وكذلك من بعض مؤيّديه) بأنه يعطّل العملية الديمقراطية في منظمة التحرير الفلسطينية أو في أطر حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وكل متابع للشأن الفلسطيني وكل من عاش تلك الفترات يعلم بأنَّ ما تعرَّض له أبو عمار من تهجُّم وإتهام وتشويه يفوق قدرة التحمل الإنساني، ولكنَّ مع كل ذلك لم يثنِهِ هذا التهجم عن منح المعارضة لحقهم بالتعبير عن معارضتهم، وكل ذلك لم يجعله يحاول إقصاء أي فصيل، وكل ذلك لم يجعله يحاول ولو للحظة أن يكون في موقعه بالتعيين، فلقد سعى لأن يكون في كل مناصبه منتخَبًا ديمقراطيًّا.
لقد قاد ياسر عرفات فلسطين بمؤيديه ومعارضيه بمنطق سمّاه هو (ديمقراطية غابة البنادق) فكان يمنح الحق للجميع بقول ما يريدون ويمنع الجميع من الإنحراف عن المسير وإن أضطر لعزلهم وكان يمنح الجميع حق الكلمة بعيدا" عن الفعل العنيف القائم على الإقصاء وكان يحترم معارضيه كما يحب مؤيديه .
والجميل بالأمر بأن ديمقراطية ياسر عرفات كانت تقتضي الانتخاب ديمقراطيًّا وبحرية تامة وهذا ما كان يحصل في مؤتمرات حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عند انتخابه، وهذا ما كان يحصل في المجلس الوطني الفلسطيني عند انتخابه كذلك، وهذا ما كان في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية عندما أصر ياسر عرفات على أن يترشّح رئيسًا للسلطة حتى لا يأتي من بعده من يكون رئيسًا للسلطة بالتعيين.
لم يحكمنا ياسر عرفات بالقوة وإن أحببنا قوته، ولم يحكمنا ياسر عرفات باللين وإن أحببنا لينه وعطفه وأبوته لنا.
لم يحكمنا ياسر عرفات بالديمقراطية كما لم يحكمنا ياسر عرفات بالديكتاتورية، ولكنَّه أبتكر (ديمقراطية فلسطينية) تناسبنا هي (ديمقراطية غابة البنادق) فصَّلها لنا بالانتخابات وفصَّلها لنا بالمؤتمرات.
حتى ديمقراطية ياسر عرفات كانت فلسطينية.
11-11-2019 في محاولة لنفهم ياسر عرفات أكثر.