ليسَ السّكوتُ من ذهبٍ، فهو في غالبِ الأحيانِ إقرارٌ بالعجزِ عن مقارعةِ حجّةِ المُحاوِرِ أو انتقادِ سلوكِ المسؤولِ، وفي الحالتينِ لا حكمةَ وراءَ النّكوصِ عن الكلامِ، فالسّكوتُ أمامَ مُحاورٍ لا يتحرّى الدّقةَ في كلامِهِ هو موافقةٌ على الكذبِ أو المعلومةِ الخاطئةِ، والسّكوتُ على أخطاءِ المسؤولِ هو تشجيعٌ له على الاستمرارِ في نفسِ النّهجِ الذي قادَهُ إلى النتيجةِ الخاطئةِ، وفي هذا تنازلٌ عن حقّنا وواجبِنا بتقديمِ النُّصحِ وتصحيحِ كلِّ ما من شأنِهِ إلحاقُ الأذى بالشّأنِ العامِّ أو الانتقاصُ من حقِّ المواطنِ. الكلامُ إذن هو وسيلةُ المشاركةِ في الحوارِ وتبادلِ الرّأيِ وإثراءِ النّقاشِ وإغناءِ الأفكارِ، وهو أداةُ التعبيرِ عن الرّغبةِ في تصحيحِ مسارِ العملِ وتصويبِ ما يلحقُ بهِ من أخطاءٍ. وفي الحالتينِ لا يمكنُ للسّكوتِ أنْ يكونَ من ذهبٍ، لأنّهُ تنازلٌ طوعيٌّ عن القيامِ بالواجب.

 

الإنصاتُ إلى الآخرِ هو الجزءُ الأهمُّ من ثقافةِ الحوارِ، وهو نقيضُ السّكوتِ والتخلّي عنْ واجبِ الكلامِ. لأنَّ الإصغاءَ بانتباهٍ واهتمامٍ واحترامٍ إلى رأيِ المتَكلّمِ أو المُحاورِ هو الضمانةُ لفهمِ وجهةِ نظرِهِ واستيعابِها تمهيدًا للردِّ عليها إنْ كانَ المتكلّمُ ينتظرُ منّا ردًّا. ولا شيءَ يُعطي المحاوِرَ ثقةً بطرْحِ وجهةِ نظرهِ كشعورِهِ بالاهتمامِ والتّقديرِ. يكتسبُ هذا أهميّةً خاصّةً عندما يتعلّقُ الأمرُ بشخصٍ يتحمّلُ المسؤوليةَ في موقعٍ قياديٍّ مهما كانَ حجمُ المسؤوليةِ أو مستواها، فبينما يصلُ النّقدُ إلى مرتبةِ الحقِّ المُطلقِ للمواطنِ فإنَّ الإنصاتَ يرتقي إلى مصافِّ الواجبِ في حالةِ المسؤولِ، وبدونِ تكاملِ النّقدِ والإنصاتِ لهُ تفقدُ الحياةُ الدّاخليّةُ محرّكَها الأساسيَّ وهو التّقييمُ الدائمُ للأداءِ وتداركُ الأخطاءِ.

 

تكتسبُ ثقافةُ الإنصاتِ وحُسْنِ الاستماعِ أهميّةً خاصّةً في حالاتِ الحوارِ متعدّدِ الأطرافِ، وهذا ينطبقُ على الحياةِ الدّاخليةِ مثلما ينطبقُ على الحواراتِ الإعلاميّةِ وحلقاتِ النّقاشِ مهما كان جوهرُها ومضمونُها، فالقدرةُ على الإنصاتِ في هذه الحالةِ هي التعبيرُ الحقيقيُّ عن قدرتِنا على الإلمامِ بكلِّ أبعادِ النقاشِ ومتابعةِ ما يطرحهُ أندادُنا وشركاؤنا في الحوارِ، وهذا يوفّرُ ضمانةً للخروجِ بنتيجةٍ إيجابيّةٍ تغني كلَّ المشاركينَ في عمليّةِ تبادلِ الرّأي بما في ذلكَ الجمهورُ المتابعُ للحوارِ سواءً بشكلٍ مباشرٍ أو عبرَ وسائلِ الإعلامِ على اختلافِها وتنوّعها. ويجبُ أن ننمّي ثقافةَ الإنصاتِ وأدبَ الاستماعِ ونحنُ نقفُ على أبوابِ الانتخاباتِ، فالقدرةُ على الكلامِ وطرحِ ما نودُّ إيصالَهُ من أفكارٍ هو مَلَكَةٌ لا يوازيها في الأهميّةِ سوى التحلّي بأدبِ تقبّلِ ماَ يقولهُ شركاءُ الحوارِ والإصغاءِ لحُججِهم مهما كانت واهيةً، إذْ لا شيءَ يؤذي المستَمعَ أو المتابعَ للنقاشِ كالصّوتِ الضوضائيِّ والاستهتارِ بآراءِ الآخرينَ واستخدامِ أسلوبِ التّعالي الفظِّ والمنفّر. وبموازاةِ ذلكَ على القيادةِ بكلِّ مكوّناتِها أنْ تُحسِن الإنصاتَ إلى رأي جمهورِها، فنحنُ أمامَ حالةِ انقطاعٍ طويلٍ للحياةِ الديمقراطيةِ بما يعنيهِ ذلك من تراكُمِ الأسئلةِ والمخاوفِ والانتقاداتِ المؤلمةِ أحيانًا والمُحقّةِ في أغلبِ الأحيانِ، ولا شيءَ يكرّسُ مكانةَ القيادةِ ويحافظُ على حيويتِها مثلَ امتلاكِها لموهبةِ الإنصاتِ لنَبضِ جمهورِها.

 

*الإنصاتُ سلاحُ القويِّ وحجّةُ الواثِقِ من نفسهِ، وهو واجبُ المسؤولِ تجاهَ المواطنِ، فهو جزءٌ أصيلٌ من العقدِ الذي ينظّمُ العلاقةَ بين مكوّناتِ المجتمع، وليس تنازلاً أو منّةً منْ أحَد.

 

٧-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان