أثارَ القرارُ القضائيُّ بحَجبِ بعضِ المواقعِ الإلكترونيّةِ في فلسطينَ موجةً من الاستنكارِ والرّفضِ من مختلفِ أطرافِ السّجالِ السياسيِّ الفلسطينيِّ، وأعتقدُ أنّ أهمَّ مظاهرِ هذا الرّفضِ المُلتَزِمِ باحترامِ القضاءِ وقراراتِهِ هو موقفُ الحكومةِ الفلسطينيّةِ الذي عبّرَ عنه الناطِقُ بِاسمها حينَ طالبَ القضاءَ بالتراجُعِ عن قرارِه، مؤكِّدًا التزامَ الحكومةِ باحترامِ وضمانِ حريةِ الرّأيِ والتعبير. أما الموقفُ الآخرُ الرّافضُ للحجبِ والذي يحتلُّ أهميّةً خاصّةً فهو موقفُ كوادرِ حركةِ "فتح" والذي لا يتركُ مجالاً للشّكِّ في تحديدِ الموقعِ الذي تختارُه الحركةُ حين يكونُ الخيارُ بينَ الانحيازِ لفضاءِ الحريّةِ أو لعتمةِ التطبيقِ الأعمى للقانونِ وكأنّنا نعيشُ في المدينةِ الفاضِلةِ التي لا ينقصُها شيءٌ سوى حُكْمٌ قضائيٌّ هنا وآخر هناك. وإذا كانَ هناكَ من مردودٍ إيجابيٍّ لهذا القرارِ فهو هذا الإجماعُ على رَفْضِهِ، وهو إجماعٌ نأملُ أنْ يتوقّفَ أمامَهُ أصحابُ قرارِ الحجبِ وأن يتراجعوا عنهُ، وليس في ذلكَ انتقاصٌ من هيبةِ القضاءِ وإنّما هو تكريسٌ لمبدأٍ أساسيٍّ وهو قياسُ كلِّ الأمورِ بمقياسٍ لا يخيبُ أبدًا وهو مدى ملاءَمتِها أو مجافاتِها للمنفعةِ العامّةِ، فالقرارُ الحكيمُ والصحيحُ هو القرارُ الذي ينفعُ الناسَ، وكلُّ ما عداهُ ليسَ مجرّدَ زَبَدٍ يذهبُ هباءً، وإنما هو سلاحٌ نهديهِ عن طيبِ خاطرٍ لأعدائنا، وهُمْ كُثْرُ.

 

من الأشياءِ التي تُحيّرُنا جميعًا هو هذا الإصرارُ الذي يتكرّرُ بانتظامٍ على اختلاقِ مشاكلَ نحنُ في غنى عنها، وفي الحالةِ التي نحنُ بصددِ الحديثِ عنها، وعلى الرّغمِ من رفضِ نهجِ أصحابِ المواقعِ التي تمَّ إصدارُ الحُكْمِ بحجبِها، فإنّهم قدْ حصلوا مجّانًا على دعمٍ وترويجٍ لم يخطُرْ ببالِهم لو لم يتمَّ إصدارُ هذا الحُكْمِ الخاطئ، فبدلاً من عدّةِ مواقعَ كانتْ في أغلبِها غيرَ ذاتِ شأنٍ، نرى الآن كيف تحوّلت معظمِ المواقعِ إلى منابرَ تتبنّى الدّفاعَ عن حريّةِ الرأيِ والتعبيرِ وتضعُ السُّلطةَ ومعها "فتح" في موقعِ المتّهمين بالتطاولِ على الحريّاتِ الأساسيّة للناسِ، مع أنَّ الحقيقةَ تقولُ إنَّ الحكومةَ و"فتح" يقفونَ في صفِّ المدافعينَ عن الحريةِ واحترامِ حقِّ كلِّ إنسانٍ بطرحِ رأيِهِ والترويجِ لهُ ضمنَ حدودِ الأخلاقيّاتِ الوطنيةِ وضوابطِ القانونِ، علمًا أنَّ الشّرطَ الأخيرَ -وهو الالتزامُ بالقانونِ- يجبُ أنْ يبقى كالعلاجِ بالكَيِّ- آخرَ ما يمكُنُ اللجوءُ إليهِ، نظرًا لحساسيةِ موضوع الحريّةِ وهشاشةِ الحدِّ الفاصلِ بينَ الدعوةِ إلى الالتزامِ بالقانونِ وبين النزعةِ إلى إغلاقِ الأفواهِ كوسيلةٍ لإقناعِ أنفسِنا أنَّ ذلكَ يمكنُ أنْ يشكّلَ حلّاً لمشاكلنا.

 

علينا أنْ نضعَ دومًا أمامَ أعينِنا حقيقةً لا يمكِنُ "حجبُها" عنْ بصَرِ وبصيرةِ المؤمنينَ بمشروعِنا الوطنيِّ، وهيُ حقيقةٌ تقولُ أنّنا شعبٌ تحتَ الاحتلالِ لا يملكُ السيطرةَ على أرضهِ وأجوائهِ ومعابِرهِ الحدوديّةِ، ولا يتحكّمُ بفضائهِ الإلكترونيّ الذي يغتصبُهُ المُحتلُّ بشكلٍ يوميٍّ عبرَ صفحاتِ ومواقعِ أجهزتِه المتخصّصةِ في سياسةِ تفتيتِ البُنيةِ الاجتماعيّةِ والنسيجِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ، ويكفي إجراءُ دراسةٍ لمتابعي صفحةِ "المُنسّقِ" في يومٍ واحدٍ لنكتشفَ مدى الاختراقِ الذي يحدثُ أمامَ أعيُنِنا لمنظومةِ الضوابطِ الوطنيةِ التي لا تحتمِلُ المهادنةَ أو السّكوتَ عن كلِّ مَن يتجاوزُها، وبالتالي فإنَّ حجبَ عدّةِ مواقعَ "مشبوهةٍ" لا يحصِّنُنا ضدَّ الأخطارِ التي تحملُها مواقعُ التواصلِ الاجتماعيّ، لأنَّ غالبيّتها تُدارُ من قِبلِ أجهزةِ المحتلِّ وخبرائهِ المحترفينَ لمهنةِ الكذبِ والتضليلِ. وهذا الحجبُ ليسَ سوى اعترافٍ بالعجزِ عن مجاراةِ خصومِنا وأعدائنا في مجالِ الإعلامِ الإلكترونيِّ، فالتصدّي لسمومِ المواقعِ المشبوهةِ لا يكونُ بحُكْمٍ قضائيٍّ نكادُ أن نُجزمَ أنّ القائمينَ عليهِ لا يدركونَ مدى خطورَتِهِ، وإنّما يكون بتعزيزِ الحضورِ في منصّاتِ التواصُلِ وطرْحِ وجهةِ النّظرِ الوطنيّةِ وتنميةِ الوعي والحصانةِ الفرديّةِ والجماعيّةِ ضدَّ سمومِ الأعداءِ، وعدمِ الانسياقِ إلى معاركَ وهميةٍ تستهلكُ جهدَنا في تفنيدِ الإشاعاتِ والأكاذيبِ التي يحاولُ خصومُنا وأعداؤنا إغراقَنا في مستنقَعِها.

 

*الإعلامُ الإلكترونيُّ فضاءٌ مفتوحٌ لا يمكنُ إغلاقُهُ بحُكْمٍ قضائيٍّ أو قرارٍ سياسيٍّ أو إداريَّ، وهو فضاءٌ مليءٌ بالكذبِ والتّضليلِ وغنيٌّ بمحاولاتِ بثِّ اليأسِ في صدورِ المؤمنينَ بحتميّةِ النّصرِ، لكنّهُ فضاءٌ عصيٌّ على مقصِّ الرّقيبِ ونزعةِ مصادرةِ حقِّ الإنسانِ في التعبيرِ عن رأيِه.

 

٢٢-١٠-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان