لم يتعلّم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب من التاريخ، ولا يبدو أنه ملم به، ولم يراجع تجربة أقرانه رؤساء الولايات المتحدة السابقين وعلاقتهم مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، التي قام إعلاميوها وساستها أمثال حليفه المهزوم نتنياهو بمهاجمتهم، والتنكّر لما قدموه من خدمات ودعم مالي وعسكري وسياسي ودبلوماسي منقطع النظير. كما حصل مع الرئيس السابق باراك أوباما وأركان إدارته، والتي على أقل تقدير أنها رفعت سقف المساعدات الأميركية من ثلاثة مليارات، إلى ثلاثة مليارات وثمانمائة الف دولار أميركي سنويا، بالإضافة للامتيازات الأمنية، والمساعدات العسكرية، التي أرسلت مجانا لإسرائيل، ومع ذلك تمت مهاجمته، والإساءة له ولإدارته، ولوزير خارجيته، جون كيري خصوصًا، ووصفوه بأقذع الصفات.

 

ولهذا بقي سيد البيت الأبيض الحالي أسير منظومته الفكرية والعقائدية، وضوابطه الداخلية، وبعيدا عن الإمساك بمفاتيح اللعبة السياسية، وانساق منذ اللحظة الأولى في الاندماج مع المشروع الصهيوني الكولونيالي، والتهور في الدفاع عنه، وملاحقة الشعب العربي الفلسطيني ومصالحه العليا، وأهدافه الوطنية الواقعية والممكنة والمتوافقة مع قرارات وقوانين وشرائع الأمم المتحدة ومرجعيات عملية السلام، وارتكب الموبقات ضد فلسطين وشعبها إرضاء لإسرائيل الاستعمارية، وتماهى مع نتنياهو حصانه الخاسر في العمل على تنفيذ المرحلة الثانية والإستراتيجية من المشروع الصهيوني "بناء إسرائيل الكاملة" على كل فلسطين التاريخية.

 

ولم يأتِ ذلك الاندفاع عفويًّا، وإنّما مرتبط بمركبات بناء شخصية الرئيس الجمهوري، حيث أعمته الأساطير اللاهوتية المزيفة، والوعي الديني الإفنجيلكاني الغيبي والمتزمت، وأدماه عدم التفريق بين السياسة وتجارة العقارات، والجهل في عدم التمييز بين الغث والسمين في العلاقات مع الآخرين وعلى المستويين الداخلي والخارجي، والاندفاع الأعمى إلى متاهات غير حميدة في الخطاب الشعبوي، وسكنته "الأنا" العالية جدًّا (النرجسية) والغرور، حتى لم يعد قادرًا على ضبط انفعالاته، وقراراته المتسرعة والارتجالية، وفي ذات الوقت، يعاني الرئيس الـ45 من حصار بعض أركان إدارته من الصهاينة والمتصهينين، ومن لوبيات الضغط المتواطئة مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، وخشيته من الانقلاب الداخلي عليه، وأيضًا شعوره بالدونية تجاه عدد من زعماء العالم، كما هو الحال مع بوتين، وشي جين بينغ، وكيم جونغ أون وغيرهم، الأمر الذي يعكس حالة الاضطراب والتناقض الملازمة لشخصية الرئيس الملاحق بعملية عزل حاليا، والتي تكشف عن شخصية تفتقد للتوازن والرصانة.

 

ورغم كل ما قدمه، وما زال يقدمه لدولة الاستعمار الإسرائيلية، غير أنه لم يسلم من حملة تحريض شرسة تقودها وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، التي تستهدفه شخصيا، وتشارك مع منابر الإعلام الأميركية والعالمية في الهجوم عليه لإسقاطه، ودفعه إلى خارج البيت الأبيض. ودشنت حملة التحريض عليه منذ اسبوعين بشكل أوضح وأعمق مما كان عليه الحال سابقًا، وتذرعت وسائل الإعلام الإسرائيلية بطرد الرئيس ترامب لمستشاره للأمن القومي، جون بولتون، معتبرة ذلك نكوصا، وردة وهجوما على حلفاء إسرائيل، كما فعلت القناة الـ12و 13 والإذاعات والصحف والمواقع المختلفة، ووصفت والد إيفانكا، بأنه "يتحدث كثيرا، ولا يفعل شيئا" ووسمته بـ"الثرثار والطائش". وذهبت كاميرات التلفزة الإسرائيلية لبث سمومها على حليف إسرائيل الأكثر قربًا، كما ذكر نتنياهو، وأجرت مقابلة مع الجاسوس بولارد للمقارنة بينه وبين ترامب، من خلال تسليط الضوء على قضية التنصت على مكالماته الهاتفية.

 

وتواصلت حملات التحريض والهجوم على ترامب من خلال إثارة "الشتيمة على يهود الحزب الديمقراطي، واعتبارها إساءة لليهود، وأيضًا من خلال تضخيم الحديث عن استعداده للقاء الرئيس الإيراني روحاني، وأخيرا من خلال تخليه عن حلفائه الأكراد، وهذا ما عنونت به صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإثنين الماضي الموافق (7/10/2019)، وسماحه لتركيا بشن هجوم على شمال سوريا، وخاصة المنطقة الكردية"؟! ولم تنته الحملة الإسرائيلية ضد راعي البقر الجديد، رغم كل ما فعله لأجل إسرائيل، وما ارتكبه من موبقات تتناقض مع مرجعيات عملية السلام. حيث مازال كبار الصحفيين والمحللين في إذاعة الجيش وباقي الإذاعات يصفونه بصفات تليق بـ"مراهق طائش"، وتجاوزت الحملة المستوى المعهود في محاكاة الرؤساء الأميركان.

 

 بالنتيجة سأترك للرئيس ترامب ولفريقه الصهيوني وأقرانه في الإدارة أن يستخلصوا العبر والدروس من الحملة الإسرائيلية المسعورة ضده. لكن يمكنني أن اشير إلى أن إسرائيل وقادتها على المستويات المختلفة وصلوا إلى استنتاج، مفاده أن الرئيس ترامب بات عبئا عليها، وآن الآوان للتخلص منه، وأن مهمته انتهت، ولم يعد بقاؤه مفيدًا لها، بل يمثل ضررًا كبيرًا لها. والأيام والشهور القريبة القادمة قد تعطي إجابات أكثر سطوعًا ووضوحًا حول أهداف وغايات الحملة الإعلامية الإسرائيلية.