بيان صادر عن قيادة حركة "فتح" في لبنان

(شُلَّت يميني إذا تنازلتُ عن حبّة تراب من القدس، وقُطعت يدي إن وقَّعتُ على حرمان فلسطيني من حق العودة إلى أرضه).

 

إنَّ انطلاقة الانتفاضة الثانية في 28/9/2000 فرضتها الظروف والمعطيات التي سادت المنطقة بعد توقيع اتفاق أوسلو، ورفض الجانب الإسرائيلي الالتزام بمضمونه، خاصة الانسحاب الصهيوني من الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وتمكين الجانب الفلسطيني من إقامة دولة فلسطين المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية على هذه الأراضي بعد انسحاب جيش الاحتلال منها، تنفيذًا لاتفاق أوسلو الذي ينص على أنَّ المرحلة الانتقالية من السلطة الوطنية إلى الدولة الفلسطينية المستقلة تمتد من 1994 إلى 1999، حيث يُعلن الاستقلال.

إلاَّ أنَّ هذا الاتفاق التعاقدي بحضور العديد من الجهات الدولية الضامنة، تمَّ تدميره عندما تسلَّم نتنياهو رئاسة الوزراء، وقام باغتيال اسحق رابين الذي وقَّع الاتفاق مع الجانب الفلسطيني، وبدأت النيات الأميركية والصهيونية تتكشَّف للجميع، بأنَّ هناك تحولات جذرية بدأت تحصل في المنطقة، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وتسيُّد الولايات المتحدة على صدر العالم، والتحكم بقرارته، وإحداث التغييرات الجوهرية السياسية والجغرافية في تضاريس منطقة الصراع، وهذا ما استوجب تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وطي صفحة اتفاق أوسلو، وتعزيز الوجود الصهيوني في المنطقة عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وسياسياً عبر عملية التطبيع. وأيضاً السعي الحثيث إلى دفع القوات والجيوش الأميركية لخوض حروب تدميرية تحت شعار محاربة الإرهاب، ولكنَّ الهدفَ الأساس لها هو إضعاف الأنظمة العربية وغير العربية القائمة في المنطقة، لطمأنة الكيان الصهيوني. وهذا ما حصل في تدمير العراق وشعبه واقتصاده، وأيضاً أفغانستان، ثُمَّ إطلاق ما سمِّي الربيع العربي الذي شكَّل حالة مرعبة من الصراعات الطائفية، والمذهبية، والسياسية التي أنهكت دول المنطقة، ودمَّرت اقتصادها مخلفةً مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وتدمير مدن وأحياء بكاملها، والمستفيد الأول هو (الكيان الصهيوني)، لأنَّ ما جرى ويجري مكَّنه من الهيمنة على دول المنطقة. وأضعف القضية الفلسطينية.

بدأت الانتفاضة الثانية بعد فشل قمة كامب ديفيد، التي استمرت من 11-25 تموز العام 2000، بدعوة من الرئيس الاميركي كلينتون، الذي وجَّه الدعوة إلى الطرفين الفلسطيني برئاسة الرئيس الرمز ياسر عرفات، والإسرائيلي برئاسة باراك، وأصرَّ كلينتون يومها على الأطراف المدعوة عدم مغادرة المكان قبل الانتهاء من توقيع الاتفاق، ورغم نصيحة الرئيس ياسر عرفات بتأجيل عقدها لأنَّ الطرفَ الآخر مصرُّ على إفشال التفاوض، إلاَّ أن كلينتون كان مُصراً أن يختم حياته السياسية بانتصار سياسي تاريخي.

كان كلينتون مُصراً على حسم القضايا الأساسية في هذه القمة المشبوهة، وهذا ما أوجد مخاوف لدى القوى والفصائل الفلسطينية، بأن يحصل تنازل فلسطيني تحت الضغوطات، إلاَّ أنَّ تصريح الرمز ياسر عرفات قبل المفاوضات طمأن الجميع عندما قال: "شُلَّت يميني إذا تنازلتُ عن حبّة تراب من القدس، وقُطِعت يدي إن وقَّعتُ على حرمان فلسطيني من حق العودة إلى أرضه".

وهذا ما ساعد الرمز ياسر عرفات أن يجسِّد الوحدة الوطنية الشاملة على الأرض مما عزَّز الموقف القيادي الفلسطيني.

كلينتون فرض نوعاً من التعتيم الإعلامي لمحاصرة وقطع الاتصالات مع العالم العربي والإسلامي، لحشد الطاقات من أجل نصرة القدس، وأصرَّ الوفد الفلسطيني على موقفه المبدئي من موضوع القدس عندما أصرَّ بوجه كلينتون متحدياً: إنْ أردتَ حسمَ موضوع القدس فعليك أن تعود إلى كل الأمة العربية والإسلامية، وليس الوفد الفلسطيني فقط، لأنّ القدس مُلكٌ للشعوب. وهذا ما جعل بل كلينتون ينهار سياسياً، ويعبِّرُ عن خيبة أمله، ويحمِّل الرمز ياسر عرفات مسؤوليةَ الفشل كاملةً.

في هذه المفاوضات الماراثونية أثبتت القيادة الفلسطينية وعيها الوطني والسياسي في التعاطي مع مختلف القضايا، وخاصة قضية اللاجئين، حيث قطع الطريق على الجانب الأميركي والصهيوني، مؤكداً أنّ الأساس في هذا الموضوع هو القرار 194 الأممي، وجوهر القرار مواد قانونية وسياسية تطبيقية، وليس الجوانب الإنسانية، فالشعبُ الفلسطيني يصُّر على العودة إلى أرضه التي شُرِّد منها تحت ضغط المجازر، والتهجير بقوة الارهاب والرعب، ورفض كافة التسويات الاميركية التآمرية، وقدَّم الوفد الفلسطيني أرشيفاً هائلاً موثَّقا يثبتُ ملكيةَ هذه الاراضي المسلوبة للفلسطينيين.

إنَّ فشل قمة كامب ديفيد، وفضح تفاصيل المؤامرة الصهيونية، قاد إلى انتفاضة الأقصى، وهي التي جاءت متممةً لما سبقها من انتفاضات، مثل يوم الأرض في الأراضي المحتلة العام 1948، وذلك في 30/3/1976، كما جاءت استكمالاً لانتفاضة أطفال الحجارة، التي خطَّط لها، وهندسها الشهيد القائد خليل الوزير أبو جهاد في 9/12/1987، والتي أذهلت العالم، وأيقظت الضمائر، وحشرت الاحتلال في زاوية الإجرام والعدوان، وتدمير مساعي السلام، وأصبح الطفل فارس عودة بحجارته، يقاوم دبابة الاحتلال وجنوده المدججين بالسلاح، ويُستشهدُ، وتنزف دماؤه، ويستنفرُ العالمُ الحرَّ منتصراً للشعب الفلسطيني. 

لقد إنطلقت انتفاضةُ الأقصى إثر الزيارة العنصرية الصهيونية العدوانية على المسجد الأقصى، والتي قادها شارون بنفسه يحيط به ثلاثة آلاف من الجنود ورجال الأمن لنشر حالة من الرعب، بين أهلنا المتمترسين في باحات وقاعات المسجد الأقصى. ومع ارتقاء الشهداء الخمسة في البداية وصلت الرسالة إلى شارون وعصاباته، بأنَّ الشعب الفلسطيني في كل الأراضي الفلسطينية قد حسم أمره بالتصدي والمواجهة. وقد بادر أهلنا في الأراضي المحتلة العام 1948 بأخذ المبادرة في المسجد الأقصى، وأيضاً في مختلف أنحاء القدس حيث أرتقى ثلاثة عشر شهيداً، وبعدها انتشرت المواجهات الساخنة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وقطاع غزة.

ولا شك أن استخدام العدو الصهيوني للقوة العسكرية المفرطة، والإصرار على قتل العدد الأكبر من شبابنا، وأهلنا، وشطْبِ مضامين اتفاق أوسلو عملياً جعلت جميع الفصائل تُعلن حالة المواجهات العسكرية، وتنفيذ العمليات البطولية الجهادية والاستشهادية، وبروز تشكيل كتائب شهداء الأقصى من جسم حركة "فتح"، وتمَّيزت هذه الانتفاضة بالعنف نظراً للتصعيد الصهيوني، الذي قابله الجانب الفلسطيني بالثبات، والإصرار، وايقاع الخسائر الفادحة بجنود الاحتلال ومستوطنيه، وهذا ما فاجأ الجانب الصهيوني.

وفي ظل هذه الاشتباكات العسكرية، والعمليات البطولية فوجئ جنود الاحتلال بالمسيرات الشعبية الرافضة للاحتلال، والتي كانت تشيِّع الشهداء، وأيضاً أطفال الحجارة الذين يغادرون مدارسهم مباشرةً إلى ساحةِ مواجهة جنود الاحتلال. وبذلك أصبحت الجماهير الفلسطينية منخرطةً يومياً في هذا الصراع بهدف إنهاء الاحتلال.

القيادة الفلسطينية لم تكن ترغبُ في استخدام الأسلحة، حتى لا تعطي مبرراً للعدو الصيهوني بإيقاع الخسائر الكبيرة، إلاَّ أنَّ هذا العدو النازي الذي يخطط لإبادة الشعب الفلسطيني، كان يصرُّ على استخدام العنف المسلْح، بما في ذلك قصف الطيران الذي وصل إلى حدود تدمير كافة مراكز، ومقرات السلطة الوطنية، وخاصة الأمنَ الوطني، والأجهزة الأمنية، والادارية، بما في ذلك المطار الذي تم إنشاؤه في قطاع غزة، إضافةً إلى المرفأ. وفي الضفة الغربية صعَّد العدو الصهيوني من قصفه الجوي ليدمِّر البنية التحتية بكاملها، إضافة إلى المقاطعة، وهي مقر الرمز ياسر عرفات، والتي تم تدمير جزءٍ مهم منها، ولم يبقَ صامداً إلاَّ الغرفة التي كان يقيم فيها الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات، ورفاق دربه خاصة أحمد سعدات، وفؤاد الشويكي، وتوفيق الطيراوي وعدد من القادة المناضلين.

الشهيد الرمز ياسر عرفات كان يحاول إعلامياً دائماً جَعْلَ الصراع مع المواطنين الفلسطينيين، حتى يكرِّس أنَّ الصراع هو بين جيش الاحتلال، والشعب الفلسطيني، وأنَّ الاحتلال يرتكب المجازر، وأن من حق الشعب الفلسطيني أن يقاوم عدوَّه الذي احتل أرضه، وكان يستند إلى ذلك من أجل إرغام الأمم المتحدة على إرسال قوةٍ دولية لحماية الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وهذا الخيار برأيه هو الذي يؤمّن استمراريةَ الانتفاضة الشعبية، ويضع الاحتلال وقواته أمام خيارات معقَّدة.

وفي هذا المجال فإننا لن ننسى الشهيد محمد جمال الدرة الذي أحرج اغتيالهُ في حضن أبيه الكيانَ الصيهوني برمته أمام العالم، لأن هذه الجريمة هي الشاهد الحي على هذا الكيان النازي.

يبقى أن نشير بأن هذه السنوات التي ضجَّت بالصمود، والتضحية، وقوافل الشهداء، ونزيف الجرحى، وآلام الأسرى، هذا الحراك اليومي على امتداد الوطن هو الذي زاد اللحمة بين الفصائل والقوى الفلسطينية على اختلافها، وأوجد القواسمَ المشتركة التي صنعتها الانتفاضة، فقد توحَّدت حركة "فتح" مع الفصائل ميدانياً، كما أنَّ السلطة الوطنية بكل قوتها شاركت في المعارك بفعالية متناهية، وقدمت مئات الشهداء سواء في الاشتباكات، أم نتيجة القصف الصهيوني المتواصل، لتدمير البنية العسكرية الفلسطينية،. ولا ننسى أنَّ الاغتيالات الصهيونية طالت العديدَ من القيادات الفلسطينية، ومنهم الشهيد حسين عبيات، والدكتور ثابت ثابت وغيرهم. وفي خضم الصراع اليومي القائم تشكلت قيادةُ الانتفاضة اليومية الميدانية، وهذا الإطار القيادي كان له الفضل في معالجة القضايا الخلافية اليومية، وفي تحصين المجتمع الفلسطيني.

ونحن نخوض كفاحنا اليوم لإسقاط مشروع جديد من مشاريع تصفية وجود القضية الفلسطينة، ومصادرة حقوقنا المشروعة كشعب فلسطيني له الحق في الوجود على أرضه، وله حقوقه الوطنية والسياسيه فإننا نؤكّد لترامب بأن من سبقوه من زعماء الولايات المتحدة فشلوا في فرض مشاريعهم التصفوية، واليوم فإنَّ ترامب وكلَّ تصوارته ستنهار أمام أَقدام شعبنا، وإصراره على تحرير أرضه لأنها الأرض المقدسة، وهي التي بارك الله فيها وحولها.

وفي هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا، نؤكد كحركة "فتح" وفاءَنا لشعبنا، وشهدائنا، وأسرانا، ونعلن تمسُّكنا بالوحدة الوطنية التي كانت أساس انتصارنا في الانتفاضة، انتفاضة الأقصى والاستقلال التي وحَّدت صفوفها، وقرارها، ومنهجيتها.

كما أننا ندعو كافة الفصائل والشرائح الفلسطينية إلى تجاوز العقبات الداخلية، والخلافات الحزبية، والتوافق على البرنامج السياسي، الذي يرتكز على إزالة الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وتحرير الأسرى.

إنَّ الانتصارات التي حققناها في انتفاضاتنا السابقة انطلاقاً من وحدتنا الوطنية، يجب أن تكون اليوم درساً لنا يصلِّب مواقفنا، ويدفعنا إلى إنهاء الانقسام القائم، الذي يستخدمه الجانب الصهيوني لتمزيقنا داخليا، وتقسيم أرض الوطن بين الضفة والقطاع، وليس أمامنا إلاَّ أن نغلِّب مصالح شعبنا، وكرامة شهدائنا، وعذابات أسرانا على المصالح الحزبية.

إننا اليوم وأمام الخيارات الصعبة أصبحنا وجهاً لوجه مع الخيارات الأصعب والأدق، مما يتطلَّب ممارسةَ كافة حقوقنا المشروعة في الدفاع عن أرضنا المحتلة، وكلها محتلة، وأن نصعِّد كفاحنا الوطني لتحرير مقدساتنا، واستعادة استقلالنا، وبناء دولتنا، وصناعة الحرية والكرامة للأجيال الصاعدة.

إننا نعتبر معركة صمود الأسرى، وإضرابهم عن الطعام احتجاجاً على القوانين العنصرية الصهيونية، والتي تهدف إلى تدمير الإرادة الوطنية، وتعذيب أهالي الأسرى، ومنعهم من زيارة أبنائهم، نعتبر هذه المعركة هي معركة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده.

وفي هذه المناسبة فإنَّنا في لبنان نعاهد كل الشهداء، وكل القادة التاريخيين، وخاصة سيادة الرئيس أبو مازن رئيس دولة فلسطين بأننا على العهد باقون، ولن نتراجع عن حمل الأمانة المقدسة، والدفاع عن استمراية الثورة الفلسطينية مهما كانت التحديات، ونعلن تمسكنا بهذه المدرسة الثورية الفتحاوية التي أسسها الرمز ياسر عرفات، ثم حَمَلَ الأمانة بعده الثابت على الثوابت الفلسطينية الرئيس محمود عبّاس، مهما كانت التحديات والصعوبات.

والنصر آتٍ آتٍ بإذن الله.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار

والحرية والعزة لأسرانا البواسل

والشفاء العاجل لجرحانا المكافحين

وإنها لثورة حتى النّصر 

قيادة حركة "فتح" في لبنان

28/9/2019