في بدايةِ القرنِ التّاسعَ عشَرَ كتبَ الشاعرُ البولنديُّ آدم ميتْسكِيفيتْش:

وطَني! أنتَ كالصِّحّةِ..

لا يشعُرُ بقيمَتِكَ

إلّا مَن خَسِرَك!

 

وكأنَّ هذا الشاعرَ الذي عاشَ في تركيا عدّةَ سنواتٍ واطّلعَ هناكَ على الشّعْر العربيِّ القديمِ وتأثّرَ على وجهِ الخصوصِ بالمعَلّقاتِ، كأنّهُ خصّصَ ما كتبَهُ للفلسطينيِّ- رمزِ الحرمانِ من الوطنِ في العصْرِ الحديثِ، إذْ لا يوجدُ شعبٌ سوى الشّعبِ الفلسطينيِّ يُحرَمُ نصفُهُ من حقِّ العودةِ إلى وطنهِ متى يشاءُ، ويَخضعُ النّصفُ الآخرُ للاحتلالِ الاستيطانيِّ الذي يقضمُ الأرضَ ويهضمُها بشكلٍ متواصلٍ مما يجعلُ المساحةَ التي يمكنُ أنْ تعطيَ الفلسطينيَّ حقَّ التنفّسِ تضيقُ يومًا بعدَ يوم. ويشكّلُ هذا الخطرُ أهمَّ ما يواجهُهُ شعبُنا في معركةِ الصّمودِ والبقاءِ في الوطنِ، كشرطٍ أوليٍّ لهزيمةِ الاحتلالِ وإنجازِ الحقِّ الفلسطينيِّ كاملاً دونَ نُقصان.

 

تميّزتِ الفترةُ التي أعقبت انهيارَ الإمبراطوريةِ العثمانيّةِ بصراعٍ يوميٍّ كانَت الأرضُ الفلسطينيّةُ محورَهُ وهدفَهُ المباشِرَ. فمِن ناحيةٍ كرّست الحركةُ الصهيونيةُ وسُلطةُ الانتدابِ كلَّ ما لديها من وسائلَ وما سنّتْهُ من قوانينَ لتسهيلِ عمليّةِ السّطوِ الصهيونيِّ على مزيدٍ من الأراضي تمهيدًا لإقامةِ دولةِ الاستيطانِ الاستعماريِّ الصهيونيِّ في فلسطين، ومن ناحيةٍ أخرى كانَ الفلّاحُ الفلسطينيُّ يسابِقُ الزّمَنَ لاستصلاحِ ما تركهُ العثمانيّونَ من أرضٍ "بور" وزراعتِها وحمايتِها من الضياعِ، وهذا ما جعلَ ملكيّةَ الأرضِ مرتبطةً بالجُهْدِ والإصرارِ والعملِ الشاقِّ والدؤوبِ. ويَعلمُ المهتمُّ بالأمرِ أنَّ هذه العمليةَ قدٌ أدّت إلى نتيجَتَيْنِ إيجابيَّتَيْنِ: الأولى هي حمايةُ الأرضِ من الوقوعِ في قبضةِ الغزاةِ الصهاينةِ، والثانيةُ تتمثّلُ في زيادةِ عددِ الفلّاحينَ الذينَ انتزعوا الأرضَ مستغلّينَ الثغراتِ التي خلّفَها القانونُ العثمانيُّ، والتي واصلَ المستَعمِرُ البريطانيُّ تطبيقَها في بدايةِ مرحلةِ الانتداب. وبالنتيجةِ لم يعُدْ هناكَ "إقطاعيّونَ" يتحكّمونَ بالأرضِ وبالفلّاحِ، وإنّما ملّاكٌ حقيقيّونَ كثيرونَ لقِطَعٍ صغيرةٍ من الأراضي، يُحسنونَ الاهتمامَ بها والعيشَ من خيراتِها.

 

تتفاقَمُ في الآونةِ الأخيرةِ ظاهرةُ بَيْعِ الأراضي وخاصّةً تلكَ التي تنتقلُ إلى الأجيالِ الشابّةِ كميراثٍ بعدَ وفاةِ حُرّاسِ الأرضِ من جيلِ الآباءِ والأجدادِ، وهُم الذين كانوا على علاقةٍ بالأرضِ لا يفهمُها أحدٌ سواهُم، فقد كانوا يعرفونَ كلّ شجرةِ زيتونٍ أو تينٍ أو لوزٍ وكلَّ "خرّوبةٍ" و سنديانةٍ وداليةٍ. بينما يتعاملُ غالبيةُ "الورَثةِ الجُدُدِ" مع الأرضِ بمقدارِ ما يُدِرُّ عليهم بيعُ "الدونم" من أموالٍ قد يكونونَ بحاجةٍ ماسّةٍ لها أحيانًا، لكنّها في غالبِ الأحيانِ أموالٌ سرعانَ ما يتمُّ تبذيرُها تطبيقًا للقولِ المأثورِ "مالٌ أتَت بهِ الرّياحُ ستأخذُهُ الزّوابعُ". علينا إدراكُ خطرِ عمليّاتِ بيعِ الأراضي لأنّها تشكّلُ تهديدًا حقيقيًّا لعلاقةِ الإنسانِ الفلسطينيّ بوطنِهِ، فالوطنُ ليسَ مجرّدَ شعارٍ نرفعهُ في مظاهرةٍ أو نبدأ بهِ خطاباتِنا، بل هو شجرةُ زيتونٍ غرسَها أجدادي في قطعةٍ من الأرضِ أعرفُ تفاصيلَها وتعرفُ هيَ ملامحَ وجهي ورائحةَ عرَقِ والدَيَّ. ولا نكشفُ سرًّا حينَ نقولُ إنَّ هناكَ عمليةَ "تكديسٍ" للأراضي وتجميعِها وحَصرِها في أيدي فئةٍ قليلةٍ احترفت السّمسرةَ، وهذا بدورهِ يُهدّدُ التركيبةَ الوطنيّةَ لملكيةِ الأرضِ ويعيدُنا إلى عصورِ الإقطاعِ ويُنهي العلاقةَ اليوميّةَ بينَ الإنسانِ وأرضهِ التي تشكّلُ "وطنَهُ" الصغيرَ.

 

على أصحابِ الشّأنِ والاختصاصِ في حكومةِ الشّعبِ الفلسطينيِّ واجبُ الإسراعِ في وضْعِ حدٍّ لظاهرةِ بيعِ الأراضي، فالخطرُ ليسَ محصورًا في تسريبِ الأراضي والعقاراتِ للاحتلالِ لأنَّ هذهِ تظلُّ ظاهرةً هامشيّةً رديفةً للخيانةِ الوطنيّةِ، إنّما الخطرُ الأكبرُ هو في قطْعِ الحبْلِ السرّيّ الذي يربطُ الفلّاحَ الفلسطينيَّ بأرضهِ. لا بدَّ من تشجيعِ كلِّ ما من شأنهِ المحافظةُ على الطابعِ "الشّعبيّ" لملكيةِ الأراضي، وهذهِ مهمّةٌ بحاجةٍ إلى سياسةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تعزّزُ ثقافةَ الاحتفاظِ بالأرضِ والعنايةِ بها، وفي سبيلِ ذلكَ يجبُ توفيرُ القروضِ وتمويلُ المشاريعِ في القرى الصّغيرةِ بما يشجّعُ جيلَ الشّبابِ على ربطِ مستقبلهِ بأرضهِ، وإلّا فسوفَ يتحوّلُ هذا الجيلُ إلى جيلٍ من المغتربينَ في وطنِهم.

 

*نحنُ أمامَ خيارَيْنِ: الأولُ هو حصْرُ العلاقةِ التي تَجمَعُ الإنسانَ بوطنِهِ وتقزيمُها لتُصبحَ مجرّدَ منزلٍ في بُرجٍ مرتفعٍ ووظيفةٍ عديمةِ الإنتاجِ والفائدةِ، والثّاني هو التّمسّكُ بالأرضِ ورعايتُها لتعطي من ثمراتِها وخيراتِها ما يحفظُ كرامةَ الإنسانِ ويجعلُهُ سيّدَ نفسِهِ الذي لا يَحني هامتَهُ إلّا للهِ أو لتتعطّرَ كفّاهُ بطيبِ الأرض.

 

٢٠-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان