يخطئ من يقع في دوامة الفصل الميكانيكي بين مؤسسات وهيئات الدولة الاستعمارية الإسرائيلية، ولا يحسن قراءة فلسفة الأنظمة الاستعمارية بكل تلاوينها، ومدارسها. ورغم أنَّ الاستعمار ليس لونًا واحدًا، إلا أن له أهدافاً واحدة بالمحصلة النهائية، تقوم على نهب خيرات وثروات الشعوب، واستغلال الشعوب المستعمَرة استغلالا فظا ووحشيًا.
ما تقدم يتعلق بأشكال الاستعمار الكلاسيكية، ولكن هناك نماذج استعمارية أكثر وحشية، هي النموذج الاستعماري المركب، أو المصنع، غير الطبيعي، لأنه يقوم على ركائز ونظريات رجعية ومزورة، لا أساس لها في الواقع المعطى، أنتجتها، وهيأت لها شروط الديمومة الدول الرأسمالية الغربية لخدمة أغراضها وأهدافها القذرة. ولهذا مدتها بأسباب البقاء على أنقاض شعب مكلوم ومنكوب، كما هو حال دولة الاستعمار الإسرائيلية، التي قامت على انقاض الشعب الفلسطيني عام 1948. وهذه الدولة الشيطانية لا تحمل أية صفة شرعية، وليس لها أية صلة بالأرض، ولا بالشعب، ولا بالتاريخ، ولا بالجغرافيا، ولا بالثقافة. وهذا النموذج لا يكتفي بنهب ثروات وخيرات وأموال الشعب الفلسطيني، إنما يقوم على نهب الأرض، والحق التاريخي، وسلب الإنسان الفلسطيني أبسط حقوقه الإنسانية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية والرياضية والدينية، وهو يشكل أبشع وأسوأ أشكال الاستعمار القديم والحديث. ولا يمكن التعاطي مع مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية إلا كوحدة واحدة، ولها هدف، أو أهداف واحدة، عنوانها الأساس تصفية حقوق ومصالح وثوابت الشعب الفلسطيني، ومواصلة خيار الترانسفير ليستتب له المكان والزمان والمستقبل، ويكرس نفسه في الواقع الجديد كحقيقة "راسخة".
ودون الخوض في الخلفية الفكرية والسياسية لدولة الاستعمار الصهيونية، وبالتوقف أمام جزئية مهمة تتعلق بقرار المحكمة المركزية في القدس يوم الاثنين الموافق 8/7/2019، التي حملت السلطة الوطنية المسؤولية عن هجمات ضد إسرائيل ما بين عامين 1996 و 2002 وأدّت إلى وقوع قتلى إسرائليين، في ما طالبت منظمة يمينية نيابة (..!!) عن ذوي القتلى حوالي مليار شيقل إسرائيلي، أو ما يعادل 250 مليون يورو، أو 280 مليون دولار عن تهم باطلة وجهها الاحتلال للرئيس الراحل الرمز أبو عمار، ومعه المناضل الأسير مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وجاء الحكم غير الشرعي والمزور، والمرفوض في أعقاب تقديم المحامية المتطرفة متسانا دارشان- ليتنر دعوى قضائية باسم عدد من العائلات المستعمرة للأرض الفلسطينية عليهما. وهي عضو منظمة (شورات هدين) الصهيونية المتطرفة، وبعد النطق بالحكم عقبت تلك المحامية بما يلي: "إنه نصر تاريخي، أن يتم تحميل السلطة الوطنية المسؤولية عن الهجمات خلال الانتفاضة الثانية"، طبعًا الفترة المذكورة ليس لها علاقة بالسنوات الخمس للانتفاضة الثانية 2000/ 2005.
 الجريمة القضائية الإسرائيلية الاستعمارية في هذه اللحظة السياسية من تاريخ الصراع، وفي ظل اشتداد، واحتدام الحرب الأميركية الإسرائيلية ومن لف لفهم من عرب وعجم، ليست وليدة الصدفة، ولا هي قضية عابرة، أو طارئة، إنما هي مرتبطة باللحظة السياسية، ولا تستهدف أموال الشعب الفلسطيني، ولا سلطته الوطنية فقط، بل تستهدف أولا الرواية الفلسطينية، من خلال تنكرها للكفاح التحرري الوطني؛ ثانيا تعمل على لي عنق الحقيقة، وتقلبها رأسا على عقب، بتعبير آخر، بدل محاكمة المستعمرين على احتلالهم، واغتصابهم للأرض الفلسطينية، تقوم بإضفاء "الشرعية" على وجودهم؛ ثالثا تحاول الالتفاف على جرائم الحرب التي ارتكبتها القيادات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني على مدار قرن خلا تقريبا، والتغطية على المذابح والمجازر، التي ارتكبتها عصابات الهاجاناة، وإتسل، وليحي، والبالماخ، والأرغون... إلخ من مسميات العصابات الصهيونية؛ رابعًا إضفاء "الشرعية" على القضاء نفسه، وهو قضاء فاسد، واستعماري، ولا يحق له من حيث المبدأ معالجة أية قضية ذات أبعاد سياسية، تتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لأن العمليات ليست معزولة عن الصراع الدائر، والموافقة على الجلوس على طاولة المفاوضات، لا تعني التخلي عن الحقوق والمصالح والثوابت الوطنية، أو القوانين والقرارات الأممية ذات الصلة بالصراع الفلسطيني العربي مع الحركة الصهيونية ودولتها الاستعمارية إسرائيل.
ما تقدَّم يفرض على القضاء الفلسطيني بكل مركباته ومؤسساته، وقبله القيادات السياسية التصدي للهجمة القضائية الاستعمارية المفضوحة، وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في كل المحاكم الدولية على ما اقترفوه من مجازر وحشية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأموات، الذين يجب مطاردتهم في قبورهم، واللجوء إلى المحاكم ذات الصّلة باستعادة أموال وحقوق الشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة.