شهد التاريخ القديم والوسيط والحديث في الحروب والمعارك العسكرية هزيمة واستسلام جيوش أمام جيوش، ودول أمام دول، ولكن التاريخ ذاته لم يشهد يومًا أنّ شعبًا رازحًا تحت نير الاحتلال والاستعمار والعبودية استسلم للمستعمرين، أو رفع راية بيضاء، ووقع على صكوك الاستسلام. هناك فرق شاسع، وبون كبير بين معارك جيوش الدول والحلفاء مع الأعداء، وبين إرادة الشعوب والأمم، رغم أن الدول الاستعمارية تفرض هيمنتها الكلية على الأرض والمقدرات ومناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وتملي قوانينها، وتحكم بالبارود والنار الشعوب المستَعمرة، إلّا أنَّ تلك الشعوب ترفض الإذعان والاستسلام، وتواصل خيار المقاومة المشروعة دفاعا عن حقوقها وأهدافها واستقلال وسيادة شعوبها ودولها.
ما تقدم له عميق الصلة بالمقالة، التي كتبها، ونشرها داني دنون، سفير دولة إسرائيل الاستعمارية في الأمم المتحدة في صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الإثنين الماضي الموافق بعنوان "أتساءل: ما العيب في استسلام الفلسطينيين؟" وجاء في مقالة الجاهل في علم كفاح الشعوب والتاريخ: "الاستسلام، هو الاعتراف أنه في سباق ما، فإن الاستمرار سيكون أكثر كلفة من الإذعان". وأضاف الغبي دانون بغباء مفرط: "ليس لدى الفلسطينيين أي شيء يخسرونه، ويمكنهم كسب كل شيء بإلقائهم السيف، وقبول غصن الزيتون". حتى في استخدامه للمفاهيم ذات الدلالات السياسية سقط في مستنقع التسطيح والاستغباء، لأنَّ الفلسطينيين، هم الامتداد الطبيعي للشعوب المكافحة من أجل حريتها، واستقلالها، وسيادتها، وهم، الذين أعلن زعيمهم الخالد ياسر عرفات من على منبر الأمم المتحدة عام 1974 مقولته الشهيرة: "جئتكم حاملاً غصن الزيتون بيد، والبندقية باليد الأخرى، لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي". وهو ما أكّد عليه الرئيس محمود عبّاس في الأمم المتحدة أكثر من مرة، معلنًا أنّ خيار الشعب الفلسطيني التمسك بغضن الزيتون، ولا يسعى، ولا يريد، ولا يرغب بحمل البندقية في اليد الأخرى، ليس استسلامًا، ولا ضعفًا، ولا خشية من (إسرائيل) الاستعمارية، ولا مداهنة لأحد، أو مساومة على حق من الحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية، ولا تنكرًا لما كفله القانون الدولي للشعب الفلسطيني باستخدام أشكال النضال لتحقيق أهدافه الوطنية كافة، إنما إيمانا بقضية السلام العادل والممكن والمقبول، ودرءًا لخيار العنف والإرهاب والحروب، وحقنا للدماء، ورغبة بصناعة سلام الشجّعان، الذي يقوم على الندية على طاولة المفاوضات.
وعود على بدء حول المنافسة، حيث بدا واضحا أن دانون الصهيوني الأمي لم يعِ أولا في علم السياسة والتاريخ، وثانيا لا يفقه في ألف باء الفرق بين السباق والتنافس بين خصمين ندين في رياضة ما، أو حقل من حقول المعرفة، أو الاقتصادي، أو الهاي تك، أو أي مجال من مجالات المنافسة، وبين شعب يقبض على جمر قضيته، وأهدافه، وعانى، ويعاني على مدار ما يزيد عن السبعة عقود خلت من النكبات والمجازر، والمذابح، وإرهاب الدولة الإسرائيلية المنظم، وانتهاك واستلاب الحقوق والمصالح والأهداف الوطنية من قبل دولته المارقة والخارجة على القانون، والتي قامت على انقاض كل ما تقدم للشعب العربي الفلسطيني. هنا أيها الجاهل المستعمر، والمتغطرس العنصري تختلف المعادلة، هنا لا تنافس، ولا سباق، بل هنا منظومة أخرى من المفاهيم والمعايير، هنا صراع بين إرادتين، بين إرادة شعب واقع تحت نير الاستعمار، يناضل من أجل تحرره، وبين دولة مستعِمرة تدوس ببسطار استعمارها أبسط الحقوق والمعايير والقيم الإنسانية والسياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية المعرفية الفلسطينية، وتعمل على نفي الحق التاريخي للفلسطيني في أرض وطنه الأم، وتسقط لغته وتراثه ومصالحه الخاصة والعامة، ولا تأبه بحقوقه وكرامته، مسنودة من قوى غاشمة مسكونة بجنون أساطيرها الدينية، وبنرجسيتها الفوق "الأنا" الإنسانية، ونموذجها إدارة ترامب الأفنجيلكانية، التي تروج لبضاعة فاسدة، وميتة، ولا تقبل القسمة على أبسط معادلات السلام، وتتناقض مع مواثيق وقوانين الأمم المتحدة ذات الصلة بالسلام، ومرجعيات التسوية السياسية.
وإن كنت لا ترى من المشهد سوى لي عنق الحقيقة، وإمكانية رفع الشعب الفلسطيني راية الاستسلام، فأنت واهم، وساذج، ومغفل، ولا تفقه شيئا من الصراع العربي الصهيوني، الذي اقتصر الآن لاعتبارات مختلفة على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي لا يمكن أن يتوقف إلا بتحقيق الحد الأدنى من الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني في استقلال دولته على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194، والمساواة الكاملة للفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية. هذا الصراع لا حل له إلا بدفع إسرائيل استحقاقات السلام الممكن والمقبول، دون ذلك، كل أموال الدنيا لا تساوي سنتمترا واحدا من الأرض والحقوق والمصالح الفلسطينية العربية. وعندما تعي معادلات التاريخ، عندئذ اكتب فقط!