تقرير: يامن نوباني

رحل أمس، الكاتب والمؤرخ الوطني الكبير "سميح شبيب" في العاصمة السورية دمشق، بعد رحلة لجوء ومنافٍ بدأت منذ اليوم الأول لولادته في يافا يوم 16 أيار 1948، واستمرت 71 عاما، عاشها في لبنان، ودمشق، وقبرص، وتونس، وغزة، ورام الله.

تراب مقبرة شهداء مخيم اليرموك يتسعد لاحتضان جسد شبيب، فيما ظلت "يافا" و "حي العجمي" مكاناً لا تنازل عنه، وبقي حلم العودة معلقاً دون اسقاط أو هزيمة، وهو ما دفع شبيب للبحث والعلم والتعمق والكتابة والتحليل في كل ما يتعلق بفلسطين.

"لا قرارات الأمم المتحدة ولا أي قرار آخر يعترف بحق إسرائيل هنا، يمكنه أن يسقط حق العودة في القانون الدولي، أنا كفلسطيني لي الحق في العودة إلى بلدي، وفي القانون الشخصي، لدي بيت في يافا لا يحق لأحد أخذه مني". يقول شبيب في قرار واضح وعنيد فيما يتعلق بالعودة واللجوء ويافا.

الكاتب والسياسي ماجد كيالي، قال: كان سميح شبيب كاتبا وباحثا ومؤرخا وأكاديميا، ورصد في كتاباته التجربة الفلسطينية المعاصرة وتلك التي كانت قبل النكبة، بما لها وما عليها، وكان وطنيا فلسطينيا بامتياز، ومن المتمسكين بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد وبالقرار الوطني المستقل.. ذهب الى رام الله علها تكون طريقا الى يافا..

بدوره، تحدث الكاتب محمود شقير لـ"وفا" عن ذكرياته معه بالقول: بداية أترحم على المناضل المثقف الباحث الكاتب د. سميح شبيب. وإن رحيله هذا يعتبر خسارة للحركة الثقافية في فلسطين خاصة وفِي الوطن العربي بشكل عام.

في السنوات الخمس والعشرين الماضية تقاطعت طرقنا أنا وسميح عددا من المرات في رام الله، منها ما له علاقة باتساع أفقه وبأسلوب عمله الديمقراطي أثناء رئاسته لتحرير مجلة شؤون فلسطينية؛ فقد هاتفني ذات يوم وأخبرني أن ثمة مقالة كتبها أحد النقاد حول روايتين لي هما "فرس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" وهو بصدد نشر المقالة من باب الحرص على حرية الرأي والرأي الاخر، وهو يرحب بنشر ردي على المقالة. شكرته على موقفه ولَم أرسل ردا على المقالة بعد نشرها.

وقد تأكدت من نزاهة شبيب واحترامه للرأي والرأي الآخر حين التقينا في مكتب الباحث خليل التفكجي بمبادرة من الباحث الاقتصادي محمد قرش وبحضوره ، واتفقنا على إصدار كتاب يغطي كل ما له علاقة بالقدس، بمشاركة عدد من الباحثين، على أن تتولى مؤسسة الدراسات الفلسطينية بإصدار الكتاب. وبالفعل صدر الكتاب، وكان المرحوم شبيب معنيا بصدوره  في أسرع وقت خدمة للقدس ولحركة الثقافة في فلسطين.

عن يافا والولادة يوم النكبة، كتب شبيب في الذكرى الـ67 للنكبة عام 2015: شاءت الأقدار، أن تكون ولادتي في يافا، على هوامش سقوط تلك المدينة العظيمة. فصيل متطرف صهيوني اسمه «إتسل»، بقيادة شاب اسمه مناحيم بيغن، كان يمتلك مدافع هاوزر، قرر أن يفتح نيران مدفعيته على يافا.

كان صوت مدافع الهاوزر مدوياً وغير مألوف لدى سكان يافا، أحدث هذا القصف رعباً شديداً، فما كان من النساء الحوامل في شهرهن التاسع، مناص من الولادة المبكرة.

ولدت بدافع الخوف، وسرعان ما هجرت، ولدت مع أطفال كثر في يافا، بفعل القصف والخوف!

تجمع معظم أهالي يافا، متدافعين مذعورين في الميناء، وهناك كانت سفن شتى، تأتي من مصر ولبنان وسورية، لنقل مسافرين.

سفن تجارية، وجدت في النكبة، سوقاً رائجة للنقل، كان التدافع على أشده، من أناس تركوا وراءهم كل شيء، ما عدا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه... الأولاد ومنهم حديثو الولادة والرضّع، شكّلوا عبئاً، وبالتالي تم جمعهم ومن ثم رفعهم لبواخر الشحن...

حدثتني والدتي عن ذلك اليوم المنحوس، قائلة: خفت عليك من الضياع، فوضعت داخل ملابس الولادة «الكوفليّة» كفا صغيرة من الذهب، وحدث ما توقعته، حدث هرج ومرج، وقاموا بتجميع الأطفال الرضع في صندوق مفتوح، وبعد الصعود للباخرة، أحضروا الصندوق، وهناك تعرف المهاجرون إلى أولادهم.

كان من الممكن أن تختلط الأمور وتضيع... «يا وجه النحس»، كانت هذه التسمية للمداعبة، لكنها كانت أحياناً نافذة، لاستعادة هذا المشهد البشع، الرحيل نحو المجهول... لم يكن يعرف المهاجرون، وجهة السفينة، قد تكون نحو غزة، وقد تكون وجهتها نحو بيروت...

شاءت الأقدار، أن تكون وجهة السفينة التي هاجرت أسرتي عليها، بيروت... وصلت العائلة إلى بيروت، وهناك استقرت زهاء خمسة أعوام متتالية، وبعدها تم التعاقد مع والدي، خرّيج مدرسة الفرير في يافا، ليكون موظفاً في «الأونروا»، التي قامت بتكليفه رئاسة قسم التسجيل في الأونروا، في سورية.

انتقلت العائلة مجدداً إلى سورية، وسكنت في التل، قرب دمشق، ثم في المهاجرين، وعند نشوء مخيم اليرموك، آثر والدي، الانتقال إلى مخيم اليرموك.

كان المخيم جزءاً من الغوطة، وكان منزلنا وسط بساتين غنّاء، حيث الخضرة والماء، لكن لا كهرباء ولا بنية تحتية ولا شيء يذكر سوى العناء.

نشأ المخيم كالفطر، نشأ سريعاً وبفترات زمنية قصيرة، وغدا مركزاً مهماً للغاية، لنشوء فصائل مسلحة، واحتضان أخرى، جاءت من الخارج.

كانت التيارات الرئيسة، سياسياً، هي التيار الوطني، وتتزعمه حركة فتح، والتيار القومي وتتزعمه حركة القوميين العرب، ومن ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لم يكن للتيارات الأخرى دور في الحياة النهضوية الفلسطينية، وأبرزها حركة الإخوان المسلمين.

وختم شبيب: نشأ المخيم من العدم، وكان اللجوء والعوز والفقر يشكل تحدياً في وجه اللاجئين، لكن الاستجابة، كانت قوية ومهمة. برز قادة من هؤلاء اللاجئين، ومفكرون، واقتصاديون وغيرهم. ليس صدفة، أن تتضافر جهود شتى، لها مرام شتى، نحو نقطة واحدة، الآن، وهي إلغاء مخيم اليرموك، وشطبه عن الوجود، كما سبق أن حدث في لبنان، مع تل الزعتر، وضبية وجسر الباشا، والبارد، وصبرا وشاتيلا.