عبد الرحيم الشيخ
لقد انتظرنا طويلاً ظهور رواية فلسطينية للضحية لن يزايد عليها سدنة المقولات السياسية والأخلاقية والجمالية، وسننتظر وقتاً أطول قبل أن يكتب أحد رواية تتجاوز ما أنجزه أكرم مسلَّم في روايته "بنت من شاتيلا." فالبنت "لا يوجد برأيها شيء اسمه ضحايا الضحايا، الضحايا ضحايا فقط، لا علاقة لهم بمن اختطف جثثهم وأسماءهم. يجب عدم الخلط بين الضحايا والناجين، قد يتحوَّل الناجون إلى قتلة، هناك ضحايا للناجين، هذا صحيح تماماً. المجزرة ببساطة هوية بحدِّ ذاتها، أمَّا الناجون، فخياراتهم هي التي تحدد هويتهم".

تحكي الرواية قصة لقاء كثيف بين شاب عشريني من مدينة رام الله وشابة عشرينية من مخيم شاتيلا التقيا في مدينة هامبورغ الألمانية في العام 2004.
وفيما كان "الشاب الأنيق" في زيارة لعشرة أيام ضمن برنامج للتبادل الأكاديمي، إذ هو طالب دراسات ثقافية عليا في جامعية بيرزيت، كانت الشابة فتاة ناجية من مجزرة صبرا وشاتيلا جاءت إلى ألمانيا لترميم جرح في وجهها، إثر إصابة من شظية، واستقرت هناك حيث تعمل ضمن فرقة مسرحية أسسها شبان مغاربة تحمل اسم "فن-شرق"، بعد أن قضت سنوات من عمرها كـ"موديل للمجزرة" بوصفها الناجية الوحيدة من عائلتها.
وقد نجا من العائلة أخوها سالم (الذي كان في بيت خالته حين هجم القتلة) والبنت التي كانت في السادسة من عمرها، التي أطلق عليها "الشاب الأنيق" اسم "حورية" التي نجت بالتماوت حين نفذ مجرمو "الكتائب" المجزرة برعاية شارون ودعمه وتغطيته، فيما قضت والدتها، وأخوتها وأخواتها: حيفا، وعلي، وجميلة، وحسام، ودلال، والجنين يونس. أما الأب، والملقب بـ"الجمل"، فهو فدائي صارم خرج مع منظمة التحرير الفلسطينية والقائد العام إلى تونس، ولم ير ابنته إلا في هامبورغ، حين زارها وأعطاها مذكراته ومسدسه، وأخبرها أن حبيبها هو فعلياً أخوها من علاقة غير شرعية مع زوجة مقاتل (قضى في المعركة لاحقاً). والخالة، التي غاب زوجها الفدائي مهرب السلاح ثلاثين عاماً، في السجون السورية، فقد خلعته وتزوجت مهرب سجائر وأدوات بلاستيكية.
يدمن "الشاب الأنيق" الجلوس في ركن على بحيرة، يصادف أن تقيم في شقة خلفه عجوز ألمانية، من مدينة درسدن، تموت وتتحلل جثتها ضمن أحداث الرواية مصعِّدة ومستعيدة ذاكرة الموت في شاتيلا، وتقيم "حورية" في شقة مقابل شقته، لعائلة يهودية سيق أفرادها إلى معسكر الإبادة في أوشفيتس، تعزف ابنتهم، أو شبحها، على الكمان.
وفيما تدور معظم أحداث الرواية في هذه الأيام العشرة، يغطي السرد مساحات هائلة من التواريخ والجغرافيات في القرن العشرين "الطويل"، كالحرب العالمية الثانية؛ ونكبة العام 1948؛ ومعركة الكرامة 1968؛ واجتياح لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا 1982، والخروج من بيروت إلى تونس؛ والرجوع إلى فلسطين في العام 1994؛ ومعاناة الفلسطينيين في الشتات ومعاملة الرسمية العربية؛ والعودة إلى فلسطين تأسيس السلطة الفلسطينية. ويمتد "زمن" الرواية إلى ما بعد "تزمينها" لتغطية العامين 2006-عام دخول شارون في غيبوبة الموت (الذي أعلن عن وفاته رسمياً في 11 كانون الثاني 2014)؛ وأحداث الانقلاب والانقسام الدامي في غزة في العام 2007.

***

إن هذه الرواية، الرابعة لأكرم مسلَّم (بعد "هواجس الإسكندر"، 2003؛ و"سيرة العقرب الذي يتصبب عرقاً"، 2008؛ و"التبس الأمر على اللقلق"؛ 2013)، هي روايةٌ منازِلَةٌ بامتياز، وتعيد إلى حيز السجال نقد الكيفية التي صاغ بها الفلسطينيون خطاباتهم السياسية، والأخلاقية، والجمالية، على أيدي مثقفيهم الكبار من أمثال: إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وإلياس خوري. أما هذه المقالة المقتضبة، فليست سوى تحية عاجلة إلى أكرم مسلم، غايتها القول إن قراءة هذه الرواية، التي ستشكِّل علامة فارقة في تاريخ الثقافة الفلسطينية، بغير ما اشتملت عليه من نحو يشكِّل مقولاتها المؤسِّسَة، ستكون مسَّاً بنبل ما فيها من تعدد لمستويات السرد والنقد و"صراخ" الضحية. فـ"بنت من شاتيلا" تحاور المقولات الكبرى في التاريخ الفلسطيني الخاص، وتحاول تجاوزها إلى ما هو أعمق في مرآة التاريخ العالمي العام.
ففيما تستعيد الرواية، على المستوى السياسي، تنظيرات إدوارد سعيد حول الصهيونية وموقعيَّة الضحية الفلسطينية وتحوُّلات انتمائها، تاريخياً من "مجتمعات المقاومة" إلى "مجتمعات المعاناة" بما يتضمنه ذلك من تحوُّلات في سياسات الذاكرة والنسيان. تساجل، على المستوى الأخلاقي، مقولات محمود درويش حول "تقاطع المصائر التاريخية" و"اختلاط الناي في الناي" لضحايا المركزانية الأوروبية والصهيونية وذلك عبر نفيها لإمكانية وجود لضحايا الضحايا، رغم ما اكتنف مقولات درويش من تركيب عصيٍّ على الابتسار بتعميم عابر على هذا النحو. كما أن الرواية، على المستوى الجمالي، تغلَّبت على معضلة "بكم الضحية" التي كرَّس إلياس خوري عمراً من النضال لمنازلتها سياسياً، وفكرياً، وروائياً.
وفيما سخِر هؤلاء المثقفون الكبار من أنه على الرغم من سرقة فلسطين في رابعة النهار وما حلَّ بها من نكبة مستمرة منذ العام 1948، إلا أن الفلسطيني لا يزال مطالباً بتقديم براهين على جدارته بدور الضحية، وتبيان رغبته بالنسيان والغفران... لا تكتفي رواية "بنت من شاتيلا" بالسخرية من، بل تنحاز إلى تسخير، تاريخ العنف الاستعماري الأوروبي-الصهيوني لمنح لسان للضحية الفلسطينية التي صار بوسعها التعبير عن كل ضحايا العالم، سواء كان جلادهم: رايخ ألماني، أو جيش صهيوني، أو كتائب "لبنانية".
لقد تمكَّن أكرم مسلَّم في "بنت من شاتيلا"، وبعيداً عن الجرس الخطابي العالي والبلاغة السياسية المكرورة، أن يباغت "المتوقَّع" في كل لحظة من لحظات الرواية بما هو خارج "التوقُّع"، وذلك عبر "مكر روائي" و"هندسة سردية" تم إنضاجهما على نار الغيرة الهادئة من غياب طال أمده لتقديم "لائق" لضحية صبرا وشاتيلا. وهو، إذ يهدي، روايته إلى "ليلى شهيد، لإسهامها الريادي في تحويل المجزرة من حدث مفجع إلى مسألة ثقافية. وإلى بيان نويهض الحوت، إعجاباً بكتابها المذهل "صبرا وشاتيلا-أيلول 1982"... فإنه لا يخفي حقيقة قضائه "أربع ساعات في شاتيلا"، كجان جينيه؛ وممارسته "الرقص بين الموتى" سوية مع كاثرن ينسكوفيتش، ومحاولته "التشفِّي" مع آخرين جعلوا من رحيل شارون دون محاكمة قضية فلسفية... لم يكتب أكرم مسلَّم ليندب مصير ضحايا المجزرة، بل ليعيد الاعتبار لـ"نبل اللغة" التي تكتب بها المجزرة، أو "تُبكى" بها كما أفصحت "حورية" بطلة الرواية، إذ لا لغة تقدر على رواية المجزرة.
لم تتلعثم الرواية في منح لسان للضحية الفلسطينية، ولم تنع البطل الفلسطيني، ولم تسع إلى "تفكيكه" وهو لم ينجز مهمته بعد، بل قدَّمته كما يليق بتاريخه، حاملاً ما أمكنه من أخطاء، ومعتذراً عنها، ومفتخراً بما تمكَّنه من بطولات، وصلاحية للرؤى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرواية لم تخجل من نعي ما آلت إليه الخيارات السياسية للرسمية الفلسطينية التي استبدلت "عدَّتها"، وغيرت أنماط تحالفاتها، وتحوَّلت من الكفاح المسلَّح إلى كفاح المسلَّح.. يكتب "الجمل"، والد حورية-البنت الناجية من شاتيلا، في مذكراته تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب، وثالثة بضمير المخاطب: "القنص: لا أخطئ الهدف، فأنا لا ترتج فكرتي. القنص: لن أخطئ الهدف، فأنا لن ترتج فكرتي. عندما ترتج فكرة القيادة، يموت الرماة. النصر الذي لا يعلمك شيئاً عن الهزيمة نصر ناقص. الصهيونية من الغباء بحيث أنها وضعت التاريخ نفسه في مأزق. الصهيونية بداية غبية نهايتها قيامية". لقد كان الجمل روحاً من أرواح القائد العام، ياسر عرفات، وكان مثله "قناص لغة"، وقد أحسن أكرم مسلَّم قنص الجميع حين أعطى الرواية حق النقض لكثير مما قدَّمه الرواة من قبل.

***

في العيدِ،
لا شيء يؤنسُ قبرَ الشَّهيدةِ غيرَ باقةِ الآسِ،
وقد محا الوقتُ بعضَ اسمِها من الشَّاهدةْ. وهامانُ الجديدْ،
الذي يوزِّع البهجةَ والخشاخيشَ والحلوى التي اتَّخذت شكلَ أُذنيه في أورشليمَ،
لم يختلف أنبياءُ الله كثيراً على تحديد موقعه بين مصرَ والهندْ، فخارطة الخلود تتسع لأنبياءِ الله وأعدائهمْ،
ولكن الضَّحايا، حينَ فازوا بقرعةِ المحو، لم يبرحوا الخارطة… قَلَبُوْهَا، وكتبوا على ظهرها قصائد عشق للشَّهيدةِ،
التي محا الوقتُ بعضَ اسمِها من الشَّاهدةْ: «لم تَنَلْ أصابعُ الملكِ البليدِ من تمرها الفارسيِّ،
لم تَـمْسَسْ كفُّهُ الكرزَ الذي على ماءِ صدرِها… لكنَّها صُبحاً قضت بحرابِ جُنْدِهْ
منفىً بلا سَبْيٍ، وسَبْيٌ في المماتْ:
شاتيلا».