مرَّ واحد وثلاثون عامًا أول أمس على ذكرى صعود الشعب العربي الفلسطيني إلى قمّة من قمم الكفاح الوطني التحرري، ذكرى الانتفاضة الكبرى في كانون أول/ ديسمبر 1987، تلك المحطة النوعية والدراماتيكية من العطاء الفلسطيني العظيم، التي أنقذت رقبة الشعب والثورة الفلسطينية المعاصرة من مقصلة التصفية والإعدام، وأعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية رغمًا عن أميركا وإسرائيل والأنظمة العربية المتواطئة معهم، ولولا لعنة حرب الخليج الثانية وتداعياتها الأميركية والغربية الرأسمالية والعربية، وسقوط النظام الدولاني الاشتراكي مع ضربة أول معول في جدار برلين نهاية أكتوبر 1989، والانهيار التام لحركة التحرر العالمية، وصعود العولمة الأميركية المتوحّشة لتغير وجه تاريخ الأمة والمنطقة.

لكن الانتفاضة (الثورة في الثورة) أكّدت لكل ذي صلة بالصراع الفلسطيني العربي الإسرائيلي، أنَّ كلّ مؤامرات التصفية والتبديد للقضية الوطنية الفلسطينية مآلها الفشل والهزيمة على مذبح الكفاح البطولي للشعب العربي الفلسطيني، ووعيه الفطري، وقدرته الخلّاقة على استلهام اللحظة المناسبة للتحليق ثانية من رماد جرائم الحرب وعمليات الذبح المتوالية، وإلقاء قفزاته في وجه كل من يتطاول على الحقوق الوطنية.

ورغم كل ما تلازم مع سنوات الانتفاضة 1987/1993 من أحداث جسام على المستويات العربية والإقليمية والعالمية، إلا أنّها ثبتت فلسطين رغما عن الدنيا كلها على الجغرافيا السياسية، وانتزعت مكانًا وتاريخًا عظيمًا في مسار حركة التاريخ المعاصر من كفاح الشعب الفلسطيني والقومي العربي والأممي، وأكّدت بما لا يدع مجالا للشك، أنّه دون حل القضية الفلسطينية حلًّا عادلاً وممكنًا ومقبولاً ومستجيبًا للحد الأدنى من الثوابت الوطنية في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة والمساواة لن تهنأ المنطقة بالهدوء والاستقرار.

وهو ما يؤكّده الآن الشعب العربي الفلسطيني وقيادته الشرعية للولايات المتحدة الأميركية ودولة الاستعمار الإسرائيلية ومَن يتساوق معهم من أهل النظام العربي الرسمي ولكل من لف لفهم في فلسطين وخارجها، من أنّ مؤامرة صفقة القرن، وقانون "القومية الأساس" الإسرائيلي الصهيوني الفاشي والانقلاب الحمساوي الأسود الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية لن تمرَّ مهما كانت نتائج المواجهة والتحدي. والشعب الفلسطيني البطل، الذي خرج من تحت الرماد في 1987 كطائر الفينيق، قادر مجددًا على الصعود من رحم المعاناة إلى ذروة جديدة ونوعية في مسيرة الكفاح الوطني. لا سيما وان الإرهاصات الوطنية والعربية والعالمية تحمل في طياتها مخاض ولادة محطة نوعية جديدة لها ما بعدها.

وعليه فإنَّ على دولة الاستعمار الإسرائيلية ومعها إدارة الرئيس ترامب ومن يركض في متاهتهم أن يستحضروا جيدًا درس انتفاضة كانون أول/ ديسمبر 1987، وقبل ذلك درس إطلاق شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة في مطلع كانون ثاني/ يناير 1965 وما بينهما من أحداث وتطورات جسام استهدفت الثورة في مقتل، لكنّها تحطمت على مذبح النضال الوطني التحرري، وهذا ليس دشًا إنشائيًّا عاطفيّا، لا هو الحقيقة العلمية وبالوقائع الدامغة على الأرض. وبالتالي على جميع القوى الفاعلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الكف عن العبث والتلاعب بحقوق ومصالح الشعب العربي الفلسطيني، والافتراض أنّ الواقع بات مهيّئًا لتصفية القضية الفلسطينية!!؟ لأنّ اللحظة التي اشتعلت فيها شرارة الانتفاضة الثورة في 1987، كانت الظروف العربية سيئة جدًّا، وتشبّه إلى حد بعيد اللحظة بشروطها الزمانية والمكانية حتى بلغ الأمر بأن القمة العربية المنعقدة قبل شهر من اشتعالها كادت أن لا تذكر في بيانها الختامي قضية العرب المركزية، ولكن إبداع وعبقرية الشعب الفلسطيني قلبًا موازين القوى رأسًا على عقب، ودفعت الحكام ذاتهم ليعقدوا قمة طارئة في الجزائر بعد ستة أشهر من اندلاعها (الانتفاضة) وأعادوا الاعتبار لقضية فلسطين. والتاريخ قد يعيد نفسه، ولكن بشروط وأدوات نضالية مختلفة، فهل يعقل أصحاب القول الفصل في مسيرة السلام، ويعيدوا النظر بخياراتهم العدمية والبائسة، ويمنحوا السلام فرصة الولادة والانبثاق، ويحقنوا دماء الأبرياء، ويرفعوا راية التعايش والتنمية المستدامة؟