في مثل هذا اليوم 28 تشرين الأوّل 1973 قبل خمسة وأربعين عامًا رحل الأديب والكاتب والمفكّر العربيّ المصريّ الكبير طه حسين تاركًا للأمّة العربيّة وللإنسانيّة إرثًا أدبيًّا ثقافيًّا فكريًّا كبيرًا. وهذا الإرث الغنيّ لا يتمثّل بعشرات المؤلّفات في النّقد الأدبيّ والبحث والمقالة والرّواية والسّيرة الذّاتيّة والتّرجمة فحسب بل بالفكر التّقدّميّ والدّعوة إلى العلم والحريّة والإصلاح أيضًا، فقد كان أديبنا نتاج ثقافتين رضع منهما العلم والمعرفة، أوّلهما التّراث العربيّ الإسلاميّ الذي اكتسبه من الأزهر ومن الجامعة المصريّة، وثانيهما الثّقافة الفرنسيّة التي حاز عليها من السّوربون أشهر الجامعات الفرنسيّة والتي فتحت له أبوابًا على الحضارتين القديمتين اليونانيّة والرّومانيّة وعلى الأدب والفكر الغربيّ المعاصر.
يردّد البشر منذ قرون عديدة أنّ ثلاثة عناصر ضروريّة لحياة الإنسان، هي: الهواء والماء والغذاء، وأمّا طه حسين فأضاف إليها عنصرًا رابعًا هو العلم، وطالب بأن يكون التّعليم في مصر مجّانيًّا في جميع مراحله، وحاول تطبيق ذلك عندما كان وزيرًا للمعارف لسنوات قليلة في زمن الملك فاروق.
خاض طه حسين معارك فكريّة وأدبيّة عديدة من أجل حريّة الفكر وحريّة المرأة وحريّة مصر واستقلالها وتعرّض لهجوم شرس من الأصوليّين عندما أصدر كتابه "في الشّعر الجاهليّ" معتمدًا فيه على العلم والعقل وعلى نظريّة الشّكّ المنهجيّ وتحديد منطق الرّأي الواضح الصّريح المبنيّ على الحدس والاستنتاج لصاحبها الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت، وقد أدّى هذا الهجوم إلى مصادرة الكتاب مّا اضطرّه إلى تعديله وإصداره بعنوان "في الأدب الجاهلي". وأرى أنّ مصادرة الكتاب قد حفّزته على تأليف كتابه الجميل "على هامش السّيرة" ليردّ فيه بطريقة غير مباشرة على الذين كفّروه.
حوار طه حسين مع الكاتب اللبنانيّ التّقدميّ رئيف خوري في مسألة: هل الأدب للأدب أم الأدب للحياة، ونقاشه مع الكاتب عبّاس محمود العقّاد وآخرين من معاصريه، وموقفه من الشّاعرين شوقي وحافظ، ودعوته لتكون مصر جزءًا من حضارة البحر المتوسّط تعطي القارئ فكرة واسعة عن الحياة الثّقافيّة والفكريّة في تلك الفترة الخصبة من حياة الثّقافة المصريّة.
امتاز طه حسين بأسلوبه الموسيقيّ ولغته العذبة وكان له السّبق في كتابة السّيرة الذّاتيّة في رائعته "الأيّام" كما انّه كان كاتبًا موسوعيًّا فقد كتب في النّقد (حديث الأربعاء، حافظ وشوقي) وفي البحث (ذكرى أبي العلاء، مع المتنبّيّ، ابن خلدون) وفي القصّة القصيرة (المعذّبون في الأرض) وفي الرّوايّة (دعاء الكروان، شجرة البؤس) وفي التّاريخ (الفتنة الكبرى) وترجم روائع من الأدب اليونانيّ القديم والأدب الفرنسيّ المعاصر.
عندما عاقبه النّظام الملكيّ وفصله من وظيفة "عميد كليّة الآداب" في الجامعة دافع عنه الكثيرون وكتب أحدهم ما معناه: فصلوك من وظيفة عميد كليّة الآداب ولكنّك أصبحت عميد الأدب العربيّ منذ اليوم، وصار هذا لقبًا له وحده.
رحل طه حسين بعد أيّام قليلة من العبور الكبير في حرب أكتوبر، فبعدما عبر الجيش المصريّ القناة إلى سيناء عبر طه حسين الحياة إلى الآخرة.
وبقيت مصر وبقي تراث طه حسين.

بقلم: محمد علي طه