شدني صديقي الكاتب المناضل فتحي البس صاحب "دار الشروق للنشر" منذ السطر الأول في كتابه الجميل "انثيال الذاكرة" حتى إعلانه في السطر الأخير منه "قهرتني الأيام لكنها لم تهزمني بعد. والانثيال لغةً هو تدفق الكلام على اللسان وأما هنا فتدفقه على القلم والورق من خزانة الأسرار التي وهبنا إياها الخالق.

يروي فتحي في سرد ممتع متدفق سيرته الذاتية منذ رأت عيناه النور في مخيم الفوار – الخليل في العام 1951 حتى عودته إلى الوطن الصغير الجميل بعد اتفاق أوسلو فيغطي فترتين قاسيتين شديدتين وغنيتين من تاريخ شعبنا، هما فترة حياة اللجوء والمخيمات وفترة الثورة الفلسطينية في بيروت، وسوف يكتشف القارئ أن فتحي لم يروِ سيرته الذاتية في مخيمات الضفتين(الفوار، العروب، عقبة جبر، البقعة... الخ) بل روى لنا سيرة شعبه، أعني سيرة اللاجئين الذين هُجروا من القدس ويافا واللد والرملة وحيفا وعكا وصفد وطبريا وبيسان ومما يزيد عن خمسمائة قرية تحولت إلى أطلال ويسعى ترامب ونتنياهو في هذه الأيام إلى إلغاء وجودهم وتغييب قضيتهم بل محوها.

وبهدوء الطبيعة قبل ثورتها يحكي لنا عن الإملاق الذي دعا الوالد ليقول لابنه فتحي التلميذ المتفوق.. "روح قله يحطك الطش! مين قلك تطلع الأول؟" لأنه لا يملك خمسة قروش يشتري بها علبة سجائر للمدرس حلاوة التفوق. هذا الفقر جعل الفتى الصغير يحمل سلة على ظهره في سوق الخضار الرئيسي وسط البلد ويدور مع المتسوقين حتى تمتلئ فيوصلها إلى سياراتهم. وهذا الجوع الذي عاشه أهلنا هناك في المخيمات وذقنا مرارته هنا جعلني أرى نفسي وأهلي في صفحات القسم الأول من هذا السفر الجميل.

نرافق المناضل فتحي في القسم الثاني من الكتاب إلى الجامعة ليدرس الصيدلة وإلى ميادين القتال وإلى السجن في بيروت والمنفى في القاهرة ثم نعود معه إلى بيروت حيث يواصل مسيرته مع الثوار فنتعلم الكثير ونعرف ما كنا نجهله عما دار في بيروت ولبنان في تلك السنوات الخصبة والعاصفة.

وعلى صفحات هذا الكتاب نلتقي بشخصيات عديدة، شخصيات عرفناها وأخرى سمعنا عنها. نلتقي بثوار وقادة بارزين مثل ياسر عرفات وأبي إياد وأبي جهاد وأبي علي إياد وخالد الحسن وصخر حبش ونلتقي بمفكرين مثل كمال صليبي وأبي عمر حنا ميخائيل ومنير شفيق وإحسان عباس وآخرين ولا ينسى المؤلف أن يكتب سطورًا في تقييمه لكل واحد من هؤلاء.

"انثيال الذاكرة" كتاب شائق يزود القارئ بمعلومات غنية عن الثورة الفلسطينية في الزمن البيروتي وعن خبايا الحرب الأهلية في لبنان وهو كتاب بطله فلسطيني عصامي ذكي محارب عاشق نظيف اليدِ والقلم.