خاص مجلة القدس- حوار: ولاء رشيد

هو ابن عيتا الشعب الذي وُلِد لبنانيًا ونشأ فلسطينيًا. عاش على تخوم فلسطين وعايش هموم ووجع القضية الفلسطينية، ما ولَّد في داخله حالةً دفعته للكتابة عن ثورة استعرت في داخله، فجاءت آثاره الأدبية والشعرية مشبعةً بعبق الوطنية الصريحة في زمن عزَّ فيه الرأي الحر والقلم الصادق. إنه الكاتب والشاعر والرسام محمد سرور.

 

بداية ما هو دور ثقافة الوطنية الفلسطينية وأثر التنوع الفلسطيني في معادلة النضال ضد العدو الصهيوني؟

من الواجب تعريف الإنسان بهويته الوطنية التي تدخل للانتماء وتصنِّف الإنسان بوطنه أو تصنِّف الإنسان الذي لديه فكرة لوطن من حيثُ موقعه منها، أي بمعنى أين هو منها، وتبرز أهمية هذه النقاط وخاصة في الزمن الحالي الذي نعيشه كونها تُطِل على مجموعة مفاهيم تعني الانتماء والهويات ومسألة العلاقة ما بين المجتمع والوطن الذي يتمثَّل بقضية بالنسبة لنا قبل أن يكتمل. من هنا، فالنقطة المركزية تتمحوَر حول كون التنوع الفلسطيني هو الرافعة الأساسية للوجه الحضاري العام للشعب الفلسطيني لمسيرته كلها. وتبقى اللغة والمنطق الذي عرَّف به أبو عمار الثورة على أنها "ريشة فنان ومبضع جراح وقلم كاتب ومعول فلاح"، فهو بذلك أبعدها كل البعد عن التبعية للايديولوجيات والأفكار التي تحاول اخذ هذا التنوع لصالح استثماره في مشاريع ضيقة وفصائلية أو حزبية. هذه المساحة التي يتحد بها الإنسان هي الأصل بصياغة معادلة الأصل والانتماء. وهذا التشكيل الوطني الفلسطيني يدخل بصميم صياغة الهوية والانتماء، وبالتالي يزيد بكل قوة فعالية النضال الوطني الفلسطيني باتجاه إقامة الدولة الفلسطينية  أو باتجاه الاستقلال، وخصوصًا في هذه الفترة التي تشهد محاولات لسرقة الهوية الفلسطينية عمومًا وحتى سرقة هوية حركة "فتح". ففتح هي الحركة الوطنية الفلسطينية أي أنها حركة المجتمع الفلسطيني، ولذلك فهي بعيدة كل البعد عن اي تعريف ضيِّق، وهي واجهة مُختَزلة لكل التنوعُّ الذي يحتويه المجتمع الفلسطيني والذي هو بذاته متمثِّل فيها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه كلما كانت مساحة الحريات والديمقراطية والحق للآخر بهذا التنوع الفلسطيني موجودة - وهو ما تحرص عليه المنظمة والسُلطة الفلسطينية - زادت النتائج الايجابية على صعيد المناخ الوطني العام، وكانت مفتوحة باتجاه فضح المشروع الصهيوني. وهذا الكلام يأتي لأن الصهيونية لا تعيش أكثر إلا إذا أنتجت الشيء الذي يشبهها بالمعادلة بمعنى ما له علاقة بالتطرف وبالعصبيات الدينية والحزبية، وكل ما تحتاجه الصهيونية لتقوّم نفسها ولتُبقي على معادلة طرح الحُجج للهروب من التسوية ومن الثمن أو الضريبة التي يجب دفعها في التسوية.

 

ما الذي يُميَّز الثقافة الفلسطينية عن سواها؟

 الميزة الأصلية أن هناك شيئًا تاريخًيا فلسطينيًا متوارثًا وهو إبداعي خلَّاق على الطراز الفلسطيني فقط، أي بمعنى التنوُّع والانفتاح الفكري الثقافي السياسي ما بين الجميع، إضافةً إلى وجود قوة النقد التي لا تُفسِد للود قضية، والنقد موجود بقوة داخل هذا التنوع الفلسطيني الذي يتمثَّل بكل التيارات الوطنية  التي تمارس النقد على بعضها وعلى كثير من الحالات التي لا ترُضي هذا الطرف أو ذاك، ولكنَّها في نفس الوقت تتعايش تحت سقف المشروع الوطني الفلسطيني وتصب نضالاتها لخدمته، والتاريخ يشهد لنموذجية العلاقة الفلسطينية الداخلية التي تقوم على التفاعل رغم التضاد والاختلاف. وجمالية هذا التعدد تكمن في أنه يقوم على منظومة متنوعة من الأفكار والثقافات والسياسات بدءًا من أقصى اليسار وصولا لأقصى اليمين أو لأقصى الحالة الإسلامية. فغابة البنادق التي نؤمن بها هي بالأصل غابة أفكار وغابة تنوع ثقافي عكست هذه الصورة.

 

إذًا، هل يمكننا القول أن دور الثقافة الفلسطينية رديف لثورة البندقية؟

بالطبع، هي ليست رديفًا فحسب بل إنَّها الأساس الذي تُبنى عليه كل المسارات الأخرى، لأن البُعد الفكري الثقافي هو الذي يؤسِّس لكل شيء يأتي بعده، فحتى البندقية إذا لم تحمل مشروعًا سياسيًا وفكرًا متبلورًا تكون دون غاية، ومن هنا فالقصيدة والنص الأدبي بدورهما يجب أن يحملا قضية.

لكننا في زمننا الحالي نحتاج لكسر دائرة الخجل والصمت، إذ إنَّه من الضروري على المثقَّف الفلسطيني أن يُطلق اللغة والموقف الذي يتناسب مع حجم الرد على المرحلة، خاصة أن هناك الكثير من المخاطر التي تُهدِّد كل المحيط القريب من فلسطين، أكان في سوريا أم مصر أم تونس أم اليمن وبكل المنطقة العربية. لذا أتمنَّى على المثقف الفلسطيني بالظروف الحالية أن يتحلَّى بالجرأة وقوة الموقف وصلابة الانتماء ولا يخاف ضريبة الموقف، لأن الثقافة إذا لم تلتزم موقفًا تفقد قيمتها الإنسانية والوطنية.. وهذا ما يُميِّز المثقَّف الحقيقي عن المثقف الهاوي أو الساعي فقط لإثبات حضوره بمساحة الثقافة أو مساحة الفكر العام.

 

ما هو تقييمك للآثار الأدبية الفلسطينية الموجودة؟ وهل جسَّدت برأيك حالة سياسة وثورية فقط؟ أم أنها عُنيت أيضًا بالجانب الإنساني؟

برأيي إن هذه الآثار جسَّدت الحالة الإنسانية التي شكَّلت المساحة الأشمل منها لأن أي فكر إذا لم يُنمَّى ويتجسَّد في صميم معادلة الفكر الإنساني يكون سطحيًا جدًا وغير فعَّال ويكون بجزء منه تعبيرًا عن الحالات غير السوية التي تواجه الساحات الوطنية والمجتمعات بنفس الوقت.

وبالنسبة للانتاجات الأدبية الموجودة على الساحة الفلسطينية فهي غزيرة وخصبة جدًا من غسان كنفاني،  لادوارد سعيد، واميل حبيبي، ومحمود درويش وكُلها قامات إلى جانبها العديد من الأسماء الكبيرة والمبدعة. رغم أنني أقول: إن شعبًا يحمل معاناة بحجم القضية الفلسطينية وأوجاعًا بحجم الشعب الفلسطيني يجب أن يكون كله شعبًا شاعرًا ومنتجًا للأدب، لأن مجموع ما يختزن من قضايا وانفعالات وتعب يفترض أن نراه بالطريقة التي تُشبه المرايا.

 

إذا كان الشعب الفلسطيني شاعرًا بفطرته، فما الذي دفع الكاتب والشاعر محمد سرور لاختيار فلسطين موضوعًا للكتابة؟

إن كل ما حولنا هو مجموعة أفكار وصور وانفعالات لدى الكاتب تنتظر حالة الإثارة. وبالنسبة لي فقد عايشت أبعاد القضية الفلسطينية وصميم أوجاعها، حيث أنني ولدت في عيتا الشعب، وكان لوالدي أرض نصفها في لبنان والآخر في فلسطين، وعمي وعدد من أقاربي استُشهدوا في فلسطين، وأنا هنا لا أذكر هذه الأمور من باب ذكر التفاصيل، بل لأنها هي التي تنتج الارتباط بالقضية. فكم أذكر المرات التي كنت أرغب بالنظر فيها للأرض، وأرغب بلمسها، وأكاد حتى أن افعل ذلك، ولكنني لا أستطيع. وأذكر كذلك المشاعر الوجدانية التي كانت تنتابني حين أعجز عن رؤية أهلي بسبب جدار من الأسلاك الشائكة. وأكثر ما يحضرني ذكرى يوم كُنتُ فيه جالسًا مع والدي الذي راح يعمل في أرضنا، وكنت يومها ابن 4 سنوات، فاقترب منا رجلان يرتديان معاطف طويلة، تبيَّن لي لاحقًا أنهما من الجنود الصهاينة، وشرعا يهددان والدي، الذي لم يعرهم أي اهتمام، وكأنه أنكر وجودهم حتى، فكيف لا أُشبَع بثقافة وطنية وقد نشأت بهذه الصورة.

 

بين الشعر والنثر والرسم، والمسرح، أين تجد نفسك؟ وما هي آخر آثارك وإصداراتك في هذه الميادين؟

كل حالة لها نكهتها الخاصة. فالرسم كان هوايةً، بدأت بها وانطلقت منها للكتابة التي أفضلها، وتحديدًا الشعر الذي أجده أصرح وسيلة للتعبير عما في داخلي.

وبالنسبة للإصدارات، فلدي 3 مؤلفات، أولها كتاب يتضمَّن نصوصًا أدبية من يوميات الانتفاضة واسمه "يوميات الوجع الفلسطيني"، والثاني "مرايا جائعة" وهو أكثر شمولية من الكتاب الأول لأنه يتناول المسألة الوطنية إضافةً إلى الفكر والغزل والشعر الوجداني.

أمَّا الثالث -وهو آخر إصداراتي- فاسمه "نشوة الغبار" وهو تجربة أكثر تطورًا على مستوى اللغة وأكثر نضجًا على مستوى الفكر، وتدخل فيه مسألة التجديد لشكل النص وحجم وقوة الشاعرية داخل النص، وكذلك هو مجموعة نصوص متنوعة أخذَت سياقًا ملحميًا، وحتى لو افترقت فإنها تتكامل لتُشكِّل منظومة من المواقف والأفكار التي تحاول أن تختصر شخصية الكاتب بشكل أمين.

كذلك ففي رصيدي  6 نصوص مسرحية إلى جانب أخرى لم تُنشَر بعد، ومما نُشر مسرحيات للأطفال تُعالِج قضايا كقضايا التسرب المدرسي أو تعلُّم النظافة أو تشير لحقوق الطفل، وهذه أيضًا من السيناريوهات التي تخص يوميات الإنسان، وهنا أشير لحاجتنا للاهتمام بتنشئة الطفل وتعليمه أوليات الحياة على قاعدة التربية الوطنية والإنسانية السليمة والنقية بعيدًا عن التعصب.

كذلك تبرز أهمية المسرح كونه وسيلة لإيصال الرسائل بطرق جميلة تفتح المدى أمام المتلقّي ليُطلَّ على مجموعة قضايا من وجهة نظر حرة وشفافة وأمينة، وبرأيي فالمسرح هو الوجه المشرق لأي شعب ووطن، فالشعب بلا مسرح هو شعب لديه خلل ببنيته الثقافية.

 

نلاحظ أن معظم القصائد تكون لها نهايات مقفلة في حين أن نصوصك غير مقفلة، فلماذا؟

هذا صحيح، وذلك لأني أرى أن الكاتب أو الشاعر مجرد ناقل لفكرة موجودة بالأصل، وله فقط أن يتدخَّل بكيفية تجسيدها وتجميلها ووضع لمساته عليها. وبالتالي فالحكم في المسائل ليس رسالة الشاعر أو الكاتب.