عشية اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 1982، ومع اشتداد الحصار على بيروت، بدأ المئات من الشبان بالتوجه من الضفة الغربية إلى عمّان ومنها إلى بيروت. كان حاتم كراكرة من قرية سنجل شمال رام الله كغيره من الشبان الراغبين بالانضمام لقوات الثورة الفلسطينية، وذات يوم أخبر والده أنه يريد الالتحاق بالمقاتلين في بيروت. رفض والده في البداية خوفاً على خسارة ابنه البكر، لكن الأخير كان عازماً على ذلك.

قبيل الحرب، توجه حاتم إلى الأردن، وأخبر أسرته أنه ذاهب للعمل هناك، وسيرسل لهم مصروفهم عند بداية كل شهر.

انقطعت أخباره منذ أن سافر إلى عمّان، ولأكثر من شهرين لم تسمع عائلته عنه شيئاً، وعن طريق بعض المعارف علموا أن حاتم يقاتل في بيروت، وخرج مع مجموعة من الشبان إلى هناك للوقوف إلى جانب الفدائيين.

انتهت الحرب على لبنان وانسحب المقاتلون من بيروت، وعادت المجموعة التي كان قد انضم إليها حاتم إلى عمّان، انقطعت أخباره، وتسلل اليأس إلى أبناء عائلته، واستلموا لقضاء الله وقدره، وقالت والدته: إذا لم نقدم للوطن أبناءنا، فما لزوم وجودنا على هذه الأرض؟.

فتحت العائلة بيت عزاء لحاتم في سنجل، لم يكن بيت عزاء عادياً، حيث كان هناك اعتقاد بأن الاحتلال يلاحق عائلات الفدائيين حتى بعد استشهادهم، فلم يعلنوا استشهاد ابنهم عبر مكبرات الصوت في المساجد، وكانوا سراً يستقبلون المعزين وأغلبهم من أقربائهم المقربين.

بعد فترة، ومع مغيب الشمس جاء شاب من القرية يزف بشارة لعائلة أبو حاتم، بأن ابنه حي يرزق، ونجا مع آخر فيما استشهد أفراد مجموعتهم في بيروت، وهو الآن في العاصمة الأردنية عمّان. لم تصدق العائلة في بادئ الأمر، وشد والده الرحال إلى الأردن، وأقسم لأم حاتم أنه لن يعود قبل أن يأتي بالخبر اليقين عن ابنهما.

بعد نحو شهر من وصول أبو حاتم لعمّان، التقى بحاتم، وأرسل صوره إلى والدته من خلال أحد الأقارب العائدين إلى الضفة الغربية، ولما وصلت الصور إلى والدته خرجت إلى الشوارع تزغرد وتغني، وخلعت الثوب الأسود واستبدلته بثوب الفرح.

عاد حاتم إلى فلسطين بعد رحلة طويلة، وبعد وصوله بأسبوع، داهم جنود الاحتلال منزل عائلته واعتقلوه وشقيقه الآخر، وأخضع لتحقيق قاسٍ لمدة 18 يوماً وأفرج عنه لاحقاً.

ولما اشتدت المواجهة في أوج انتفاضة الأقصى في العام 2000، ووصل عشرات الشبان إلى خطوط التماس مع جنود الاحتلال، أصيب شاب كان لتوه عائداً مع عدد من المقاتلين من بيروت، عاد سالماً يومها، لكن في هذا اليوم دق شبان باب منزل الحاجة وردة كراكرة (أم حاتم) في سنجل، وقالوا لها: "يما.. إبنك حاتم استشهد".

أم حاتم، عند سماعها خبر استشهاد ابنها البكر، خرجت إلى الشارع تطلق الزغاريد، وبعد لحظات مرت سيارة إسعاف بالقرب منها، وأطل شاب برأسه من نافذة السيارة، وقال لها: "حاتم عايش ..حاتم عايش".

أصيب حاتم يومها برصاصة اخترقت يده اليمنى، ولشدة النزيف ولأنه كان في الخطوط الأولى، ظن الشبان أنه استشهد.

حاتم الذي امتهن الحدادة، كان نشيطاً في صفوف حركة "فتح" خلال انتفاضة الأقصى، كان يساعد رجال المقاومة على إخفاء أسلحتهم بالمركبات أثناء تنقلهم بين المحافظات، التي تكتظ شوارعها بالحواجز العسكرية ونقاط التفتيش الإسرائيلية.

توفي حاتم في حادث سير بالعام 2006م، قرب حاجز عطارة شمال رام الله، إذ تحطمت السيارة التي كان يقودها بالكامل، وتوفي وهو بداخلها.

بعد وفاة حاتم بأيام، مرت سيارة شبيهة بسيارته من أمام منزل والدته، ولما شاهدتها أم حاتم خرجت تلهث خلفها وتنادي: "يما يا حاتم وقّف.. يما يا حاتم وقّف"، يومها سقطت على الأرض وظلت طريحة الفراش عدة أسابيع، نتيجة تعرضها لكسور في ذراعها وساقها.

قبل أن نغادر بيتها، حاولت الحاجة وردة كراكرة، النهوض بصعوبة، وأشارت لنا إلى صورة لشاب وسيم يقف إلى جانب سيارة، وقالت: "بالله في أجمل من هالوردة؟" وتقصد ابنها حاتم. وأضافت بعد تنهيدة: "هذا حال الدنيا، سقتني كأس حنظلها ومرها، أنا كل ما جيت أعدلها وألمها، فتل دولابها وأعطى قفاها.