كيوم أخضر أكثر من الربيع، فيما الألوان تبدو بالاسود والابيض، كان على الحياة ان تبدو أكثر زهواً كأي شيء يخص الصور الحيّة التي كانت تتسلل بصدق كطيف عنيد إزاء دوامة اليأس التي حولتنّا في لحظة عصيبة الى لون رمادي، وحيداً وقف محمود درويش مع العصافير وأشواك الينابيع وسط أنواء وطوفان هائل، ضحكات يديه مراكب والبحر سهول، قدماه الطويلتان قليلاً تلامسان الضحى، كناريّاً على الزنابق البريّة وقف يلوّح بمناديل الورد لكلّ عابر في الحياة، هذه الحياة التي عجِزَتْ ان تصفها الكلمات، والادراك، واليد، في الزمن الاخير من حياته، حتى أصبحتِ البلادُ والارض والاحتراق وسرّ الروح والوجود في حضرة ذاتٍ متدفّقة كمياه النيل وتجربة شعرية عكستْ جوهر الحياة، وكأني به في آخر أيّامه كان الأصلَ.

 

غيابك ومضة عين

خمس سنوات مضت على غيابك وكأنها ومضة عين، كم هي موحشة ومليئة بالتأمل وطقوس الاوجاع، كم هي مباغتة تلك التي يصنّفونها الحيرة أمام نضارة عباراتك، كم هي باهتة حقبة ما بعدك من الشعر، إنه القدر الذي لا مفرّ منه بين البقاء والفناء، بين الحياة والموت، بين ان تكون او لا تكون، كانت حياتك في أيامك الاخيرة كقصيدة تتوهّج وتذوي بعفوية خلاّقة وأنت تنظر الى هذا الثنائي، هنا ولا هنا، كأنك كنت تعرف أن أيامك معدودةٌ وأنت تنظر الى العالم نظرةً كونيّة على أسس ودعائم انسانية في لغة شعرية غنية مميّزة مستمدّة من تجربة متجددة لا تنضب، حتى كان لك هذا الأثر العميق الذي سيستمر زمناً طويلاً على حركة الشعر والصياغة الشعرية بفضل اندفاعك اللا محدود  لكتابة الشعر الأنقى في الأيام الأخيرة وأنت تنظر الى العالم نظرة المودّع الذي لن يعود، والذي يسابق الزمن بالكتابة حتى الرمق الأخير. وكان لكلمتي الحياة والموت في شعرك جرس خاص ووقع مصحوب بالقيم وبجوهر الانسان والوجود والخلق والكينونة والرؤيا. في هذا الجانب فأنت صاحب المرثية الأجمل والقصيدة النابضة بالحياة والكلمة والابعاد الوجودية بعيداً عن الرتابة والصَّنْعَة والاستهلاك.  " في الحصار، تكون الحياة هي الوقت بين تذكّر أوّلها ونسيان آخرها"، (حالة حصار)، فقدمت الى الشعر ما عجز عنه الآخرون وابتكرت تقنيات لن تتكرر في الشعر العربي، ولو بعد طول غياب، فسهل ان نتحدث عن الايقاع، سهل ان نتحدث عن الاسلوب، سهل ان نتحدث عن التجربة، وسهل ان نتحدث عن القصيدة، ولكن يصعب الوصول الى كنزك ذي الجواهر المتلألئة الذي يبدو أبعد من أي لون، لقد تمكّنتَ أن تقول أعذب الشعر منذ النفحات الأولى وصولاً الى أسطورة التأمل في الحياة وتعقيداتها، وبقيتْ التجربة عند حدود ملامسة حركة الحياة والرمز الكامن في فتنة الزمن الآتي بحثاً عن الأجمل، ومعنى المعنى، وفكرة الفكرة، والتعبير، والاقتصاد في العبارة،؛ لذلك اكتملت التجربة الشعرية وتقلّصتْ الموضوعات على اتساعها وتركّزت على الحياة وأهميتها في عمر الانسان حيث شكلت هاجساً اسثنائياً، وفتحت باب الشجون والتأملات على مصرعيه، لأن الحياة بالنسبة لدرويش صاخبة ومزدحمة بالوقائع المعلنة والخفية، صامتة ومدوية، ومزدحمة بقضايا تتعلق بالأحلام والغد والتفكير والاختيار ومعانقة القدر على أرضٍ تختار فيها حياتك، في أقسى تراجيديا انسانية، وابداع فني ملحمي قلّ نظيره، ومشاهد تفوقت على ضجيج السلاسل والبنادق وحقائب السفر، الى العمق الانساني التراجيدي في تجربة متوهجة تحفر عميقاً في مجالات التأمل، وتعكس بكلمات قليلة قوة الاقتضاب وجزالته بما يليق بإناقة العبارات التي حملتْ في الفترة الاخيرة تجربة انسانية موجعة مفتوحة على الحكمة وقسوة الزمن والضوء والتأمل في إشعاع سيبقى يتردد في كل اتجاه. "الحروب تعلّمنا أن نذوق الهواء وأن نمدح الماء" ( أرى ما أريد) وهو حفر عميق في عملية الابداع والخلق التعبيري في وطن زاخرٍ بالعبارات والصور وملامح الرؤية والرسوم وفي قصة رحيل لن تنتهي، وحصان لا زال وحيداً يرعى بين الكلمات العابرة. لغة محملة بالحضور والخيال ودلالات الألغاز، وتأثير الاحتلال وجودياً على الملمح السياسي والحواس والاسرار. اسم فلسطين في شعره له نكهة خاصة ورنة ماء غامضة، لا يعرفها غير من عاش دواخلها.  "كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين / على هذه الارض ما يستحق الحياة"، ( ورد أقل) ثمة ما يدفع الشاعر الى ان يفكر باستمرار في النهايات باعتبارها جزءأً من حركة التاريخ واللغة والقيمة المعنوية للكتابات التي تعبر عن التفكير كخلاصة للثقافة والقدرة في تحول المشاعر كما هي لتتجاوز النضوج الشعري والسياسي والاديولوجي الى رحاب الانسانية متفرداً بمكانة النقاء نقاء العسل الصافي، حيث استطاع في كتاباته الأخيرة بعد الستين من عمره ان يغزو العقول والقلوب والوجدان العربي والانساني، لذلك شغلته الحياة كما شغله الموت، حتى أصبحا رفيقي درب، يحلّقان كالنوارس في سماء قلبه وعقله، يصادقهما ويجافيهما، ويبحث احياناً عن متر وبضعة سنتيمترات في التراب لجسد يليق بهذا التراب، جسد منتصب القامة يرسم الالم والخلود في خطوات تعانق فلسطين والكرمل والبروة وشبابيك البيت وجدرانه بحثاً عن السلام والسكينة والحياة بعد جلجلة السلاح " السلام غناء حياة هنا. في الحياة على وتر السنبلة" ( حالة حصار)، لم يعد حضوره غير هذا الآخر المتفوّق على الكائنات المبتكِر المتجدِّد المتجذِّر بالارض والحياة والمجسِّد لعناصر المجاز والصورة الايحائية والتنوع المتدفّق في وطن يحلم فيه بالبقاء ويحلم بأن يعيش الحياة بأبعادها وبساطتها. ما يدفع الى التمسك بها والمحافظة عليها، وكأنه كان يعرف أن ما بعد النهاية هناك ديمومة للحياة، الحياة هنا تعني لدرويش إحياء لها في كل المجالات في الارض، والعمل، والسعادة، والحب، والسفر، والعودة الى ارض الوطن. أن تكون هناك حياة في كل ما نقوم به. فلو كان درويش حياً كيف كان سيواجه المرحلة العصيبة التي يعانيها الانسان العربي اليوم في كل مكان وهو يشتبك مع نفسه ومع الآخر ومع الخراب والارض والفكر ومع قبح الاحتلال. وهو الذي كان ينظر الى الثورة على أنها ليست بندقية، فهي لو كانت كذلك لكانت قاطعة طريق لكنه اعتبرها نبض شاعر، وريشة فنان، قلم كاتب وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائييها.

فالعِبْرَةُ والحِكْمَةُ والموعِظَةُ جاءت من شاعر كافح وجاهد وعانى واغترب واعتقل ومرض وعاد ليجد كم أن الدنيا صغيرة كراحة الكف، وليتذكر دائما ان ما كان ليس أكثر مما سوف يكون، شاعر وانسان فوق كل فكرة وكل اعتبار أتى مواضيع انسانية تعني الانسان في كل مكان، قبل ان تكون اي شيء آخر. "لا تتذكروا من بعدنا الا الحياة" (لا تعتذر عما فعلت)  "لا تنس من يطلبون السلام "، " قل ليتني شمعة في الظلام" ( كزهر اللوز أو أبعد) أصبح درويش انساناً زاهداً متأملاً ناسكاً مرشداً موجّهاَ معلّماً فيلسوفا واعظا " ونحن نحب الحياة اذ ما استطعنا اليها سبيلاً " ( ورد أقل) كأن الحياة في الوردة والشوكة في الألم والسعادة في الروح والجسد في الخير والشر في الحرب والسلم لكنها اجتمعتْ جميعها في هذه الارض التي أحبها ودفن فيها.