خفضت "فريدوم هاوس"، وهي منظمة دعم الديمقراطية الأميركية، في تقريرها السنوي الذي صدر في ربيع 2016، تصنيف إسرائيل فيما يتعلق بحرية الصحافة من مستوى "حرة" إلى "حرة جزئيا". ولا يعد هذا القرار غريبا لأي شخص متابع لوسائل الإعلام الإسرائيلية على مدى عام ونصف مضت.

وركزت "فريدوم هاوس" في المقام الأول، على الزيادة الكبيرة في المحتوى المدفوع في صفحات التحرير، فضلا عن التأثير الكبير من صحيفة "إسرائيل هيوم" (إسرائيل اليوم)، وهي صحيفة يومية مجانية مملوكة للثري وصاحب أندية القمار الأميركي شيلدون أديلسون، والذي يرى العديد أنه يسعى لتعزيز وجهات نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وعلقت الكاتبة روث مارجليت، في مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، على موقعها في 30 تموز/ يوليو الماضي، على التقرير بمقالة تظهر أبرز وجوه سيطرة نتنياهو على وسائل الإعلام الإسرائيلية.

وقالت: "يمكن توثيق التحيز في جريدة "إسرائيل هيوم" جيدا، حيث كشف تقرير استقصائي تم بثه على التلفزيون الإسرائيلي في العام 2013، مسودات عدة مقالات كتبها صحفيون عاملون في الصحيفة وتم تغييرها بشكل منتظم من قبل رئيس تحرير لحذف الانتقادات الموجهة لرئيس الوزراء".

وترى الكاتبة أنه من الطبيعي أن تكون لصحيفة ما أجندة سياسية، فليس هناك شيء جديد، ولكن "إسرائيل هيوم" ليست من اليمين ولا المحافظين بالمعنى الواسع، لكنها أصبحت عبارة عن بوق يشجع كل ما هو في مصلحة نتنياهو، حيث قال الوزيرة اليمينية في حكومة نتنياهو نفتالي بينيت: "إن إسرائيل هيوم هي لسان حال رجل واحد".

ومن نواح عدة، غابت عن تقرير "فريدوم هاوس" التحولات الحقيقية المثيرة للقلق، فمحاولات نتنياهو للسيطرة على صفحات البلاد وموجات الإذاعة تذهب لأبعد من "إسرائيل هيوم" بكثير. فخلال الأشهر الثمانية عشرة المنصرمة، بالإضافة إلى مهام رئاسة الوزراء، شغل نتنياهو منصب وزير الاتصالات وكذلك وزير خارجيتها، ووزير الاقتصاد، ووزير التعاون الإقليمي، ومن خلال شغله هذه المناصب، قام ومساعدوه بالاستفادة، وبكل وقاحة، للحصول على تغطية جيدة من الوسائل الإعلامية التي وصفها بشكل متكرر بأنها "منحازة بشكل جذري".

وتقول روث: يمكن النظر إلى جهود كبح حرية الصحافة كجزء من هجوم واسع من قبل نتنياهو ووزرائه على المؤسسات "الديمقراطية" في إسرائيل، بما في ذلك المحكمة العليا والمنظمات غير الحكومية، فكل معارض للخط الحكومي الرسمي هو عرضة للشك، وفي هذا المناخ، أصبحت وسائل الإعلام ساحة معركة شخصية لنتنياهو. ففي العام الماضي قال ناحوم بارنيا، وهو كاتب مقالات رأي إسرائيلي بارز، إن "هاجس" نتنياهو في وسائل الإعلام أظهر أنه شخص "يسيطر عليه الخوف والذعر".

وفي اليوم الأول بعد أن نجح في الانتخابات ليتولى فترة ولاية رابعة، قام نتنياهو بخطوة صغيرة ولكن غير عادية؛ حيث سرح مدير عام وزارة الاتصالات، وعين بدلا منه رجلا عرف عنه خدمة نتنياهو، فيما ذهبت أي اعتراضات تجاه هذه الخطوة أدراج الرياح بسبب خطوة استباقية من قبل نتنياهو نفسه، حينما فرض على أعضاء ائتلافه التوقيع على "بند الاتصالات"، لضمان الدعم التلقائي لأي قرار يتخذ في المستقبل من قبل وزير الاتصالات. بعبارة أخرى، من قبل نتنياهو.

ومنذ تعيين المدير العام الجديد، أقرت وزارة الاتصالات سلسلة من القرارات التي أثبتت نجاعتها لـ"بيزك" وهي أكبر مجموعة اتصالات إسرائيلية. تعمل "بيزك" أيضا في مجال الأخبار، حيث تشغل موقع "والاّ" وهو واحد من المواقع الإخبارية الأكثر شعبية في البلاد، كما يملك شاؤول إلوفيتش المقرب من نتنياهو، الحصة الأكبر فيه.

ولم تستغرق "والاّ" وقتا طويلا قبل أن تتحول تغطية الأخبار المتعلقة بحكومة نتنياهو إلى إيجابية. ووفقا لتقرير صدر مؤخرا في صحيفة "هآرتس" الليبرالية، فإن المدير التنفيذي للموقع أصدر توجيهات لإنتاج مقالات تحسّن صورة سارة، زوجة نتنياهو، وتخفف من عناوين مقالات الرأي التي تنتقد نتنياهو، إلى جانب تأكده من عدم تصدر الإحصاءات غير الإيجابية، مثل تقرير الفقر الأخير، صفحة الموقع الرئيسية.

"ماذا يمكن للإدارة أن تفعل"؟ قال أحد صحفيي "والّا". "نحن مهددون من قبل مجموعة من أكثر السياسيين والشركات التجارية نفوذا في البلاد".

موقع "والّا" الإخباري ليس الحالة الوحيدة، فجو الترهيب بدأ في الترسخ بشكل كثير، إن لم يكن في أكثر، غرف تحرير الأخبار في البلاد. وبهذا الخصوص قال مصدر في صحيفة "إسرائيل هيوم"، شريطة عدم الكشف عن هويته خوفا من فقدان وظيفته، إن رئيس الوزراء "يسيطر على الجميع، الجميع وليس فقط نحن، وفي وسائل أخرى، قد لا تدرك مصالحهم ولكنهم متشابهون".

وفي حقل الصحافة والإعلام، قام نتنياهو بتعيين المقربين له في المناصب العليا أينما استطاع، وشكك بالمستقبل المالي للوسائل الإعلامية التي لم يستطع التحكم بها، حيث تواجه ثلاث من القنوات الإخبارية التلفزيونية الرئيسية في إسرائيل -القناة الثانية، والعاشرة، وهيئة الإذاعة- خطر التجزئة، والتوقيف أو التغيير، والسبب الرسمي للحكومة وراء هذه الخطوات هو فتح قطاع الاتصالات وإدخال المزيد من المنافسة، لكن يبدو أن هناك معايير مزدوجة؛ ففي قضايا أخرى، مثل الغاز الطبيعي، لم يشأ أن يتخذ نتنياهو موقفا ضد الاحتكارات. وهنا قالت إيلانا دايان، وهي صحفية رائدة في مجال التحقيق الصحفي للقناة الثانية، "في بعض الأحيان المنافسة هي ملجأ لأعداء الديمقراطية".

وفي حين يميل الصحفيون إلى الأسف على هذه التطورات الأخيرة، إلا أن العديد من الإسرائيليين يرون أن معركة نتنياهو للسيطرة على وسائل الإعلام هي وسيلة طال انتظارها لتصحيح التحيز الليبرالي أو اليساري. وعن ذلك، قال أميت سيغال، المراسل السياسي للقناة الثانية، إن "أنصار نتنياهو قد سئموا منه، لكنهم سئموا أكثر من النخب اليسارية القديمة"، فهذا العداء امتد عقدين من الزمن، ففي العام 1999، صاغ نتنياهو متحدثا عن وسائل الإعلام ورد فعلها على احتمالات فوزه في انتخابات عامة أخرى، شعاره الشهير "إنهم خ-ا-ء-ف-و-ن".

وأضافت دايان "في مرحلة ما أدرك نتنياهو أن معركته مع وسائل الإعلام تكسبه شعبية كبيرة بين مؤيديه،  من خلال توفير ما يرغبونه، وكانت النتيجة نجاحا هائلا بالنسبة له".

إذا كان هدف جهود نتنياهو للسيطرة على وسائل الإعلام هو تصحيح التحيز الليبرالي، فقد أثبتت تصرفاته ضيق أفق فظيع، فتدخلاته ورفاقه المتكررة في المحتوى التحريري لم تدعم الحق الأيديولوجي أو تعطي صوتا للمهمشين والقطاعات المحافظة في المجتمع، فبالنسبة لنتنياهو المخاطرة شخصية.

وهنا يقول سيغال، مستخدما لقب رئيس الوزراء، "في كل مرة نشهد تعيين بيبي لشخص في وسائل الإعلام، فالهدف إما لمساعدة سارة أو للمساعدة في دعم شؤونه الخاصة".

ورغم أنه ولسنوات عدة، اتخذت الصحيفة اليومية الأكثر قراءة على نطاق واسع "يديعوت أحرونوت" ومالكها، خطا مناهضا لنتنياهو، إلا أن حجج التحيز لليسار لم تعد مقنعة كما كانت، خصوصا عندما يحصل معظم الإسرائيليين على أخبارهم من "إسرائيل هايوم" أو "والاّ"، وعندما يبقى هناك معقل ليبرالي وحيد، في إشارة إلى جريدة هآرتس التي تناضل من أجل البقاء، ومع ذلك يواصل نتنياهو تقديم نفسه كضحية للصحافة الراغبة في الانتقام.

أما الشيء الوحيد المشجع في كل هذا، فهو أن وكالات الأنباء ما زالت تقاتل من أجل الحفاظ على استقلاليتها، فالبرامج الاستقصائية مثل "ستون دقيقة" و"الحقيقة" و"المصدر"، تواصل الخوض في الفساد الحكومي والبث في أوقات الذروة. تقول دايان، التي تقدم برنامج الحقيقة "رغم الاعتداء على الصحافة، لا تزال وسائل الإعلام الإسرائيلية ذات طابع انتقادي وعدواني جدا ووقحة، إنها غريزة أساسية وجزء من حمضنا النووي".

وفي وقت سابق من هذا العام، كتب المراسل الدبلوماسي أمير تيبون في "والّا"، مقالا ينتقد رد نتنياهو لأحدث موجة من "العنف الفلسطيني" تحت عنوان "وعود نتنياهو لتحقيق الهدوء يستبدلها بالتشجيع"، وبعد فترة وجيزة من نشر المقال، تم إخبار "تيبون" أن مكتب نتنياهو يحاول الضغط على المحررين لحذف مقاله من الموقع، ما دعاه للتوجه إلى موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، للكتابة عن محاولات رئيس الوزراء لإسكات الانتقادات. ونتيجة لذلك، ظلت مقالته على الموقع مع تغيير صغير؛ تم حذف كلمة "نتنياهو" من عنوان المقال نفسه