خاص مجلة "القدس" العدد 328 تموز 2016

لو كان الشهيد ياسر عرفات مازال حياً بيننا، لاحتفلنا وإياه في الرابع من آب بذكرى ميلاده السابعة والثمانين. ومع أنه حي بيننا في كل يوم، إلا أن غيابه الجسدي ليس إلا صورة ثانية لحضوره الدائم، وها نحن نتذكر يوم ميلاده في الرابع من آب 1929 على الرغم من اغتياله اللئيم ، ونتذكر أيضاً الرابع من آب 1982 الذي كان من أقسى أيام الحرب الإسرائيلية؛ ففي ذلك النهار المغبّر برائحة البارود حاول الجيش الاسرائيلي شطر مدينة بيروت إلى قسمين:  شمال كورنيش المزرعة وجنوب الكورنيش. وصبّت الطائرات الإسرائيلية حمماً مهلكة، وأطلقت البوارج  ما لا يُحصى من القذائف، علاوة على المدفعية والدبابات. وكانت خطة الجيش الاسرائيلي التقدم من محور المتحف نحو الغرب لاختراق العاصمة عبر كورنيش المزرعة حتى البحر عند الروشة والرملة البيضاء وكان أريئيل شارون يعلم أن الرابع من آب هو يوم ميلاد ياسر عرفات، ورغب في أن يحوِّل هذا اليوم الى موت للفدائيين المدافعين عن بيروت. لكن ياسر عرفات وأبو جهاد وسعد صايل (أبو الوليد) ورفاقهم حوّلوا ذلك اليوم الى مدرسة في الصمود الذي كان يحاكي صمود المقاتلين السوفيات في ستالينغراد إبان الحرب العالمية الثانية، وأرغموا القوة الاسرائيلية الغازية على التراجع الى الوراء بعدما أذاقوا دباباتها الدمار والحنظل في ميدان سباق الخيل.
نتذكر ياسر عرفات ذلك المهندس الذي لم يمارس مهنة تعبيد الطرق، بل شق طريقاً فريدة للثورة في حقول الألغام الكثيرة. ومن بين هذه الألغام التي تعوّد السير بينها كمن يمشي بين حبات المطر، كان ياسر عرفات يخرج دائماً من الموت الى المواجهة. لكنه في حصاره الأخير في رام الله، خرج من الحصار الى الشهادة مرة واحدة، ومات في المنفى مثل عوليس الإغريقي مثخناً بجروح كثيرة ومُزّيناً بأكاليل لا تُحصى من الغار. ومنذ مولده حتى شهادته، عاش بلا هوايات، فلم يكن يشاهد مباريات كرة القدم مثلاً، أو المسرح أو الأفلام السيمنائية، أو حتى الاسترخاء في أيام محددة، فهذه المصطلحات كانت مضحكة له. ولم يعرف أبو عمار مظاهر التنعم والإقبال على متع الحياة، بل اشتهر بتلك البزّة العسكرية التي لم تفارق جسده حتى أواخر أيامه في رام الله قبيل سفره العلاجي الى باريس. وكان، كما هو معروف، شديد التقشف في مأكله، وأحبُّ المشاريب اليه الشاي بالعسل. أما إفطاره فلا يتعدى قليلاً من الجبن وقطعة من الخبز الأسمر، وأحياناً بعض الفول. لهذا كان الشاعر  الكبير محمود درويش يقول إنه يضطر أحياناً إلى تحمّل العشاء عند أبو عمار، وهو عشاء متقشف مؤلف من صنف واحد مع بعض التوابع. وقد سماه محمود درويش "سيد النجاة" أما "سيدة النجاة" فهي ابنة الناصرة مريم أم المسيح.
من مآثر ياسر عرفات المشهودة عبوره نهر الأردن في 26/7/1967 نحو جنين، بعد أقل من شهر ونصف الشهر على حرب الخامس من حزيران 1967. ففي ذلك التاريخ، أي منذ خمسين عاماً، وكانت صدمة الهزيمة والاحتلال ما زالت تعصف بالعقول والمشاعر، ذهب ياسر عرفات بشجاعة فائقة مع مجموعة من الفدائيين، وأقاموا في كهف يقع بين طوباس وقباطية، ثم انتقل الى منطقة طولكرم، وأقام في مكان قريب من بلدة دير الغصون، قبل أن ينتقل إلى حي القصبة في نابلس. وحين اكتشفت المخابرات الاسرائيلية مخبأه، لم يعثروا فيه إلا على بقايا طعام. ثم انتقل إلى رام الله، وهناك التقى فيصل الحسيني.  وعندما اكتشفت المخابرات الاسرائيلية مكانه ثانية كان قد فرّ الى مكان آخر، ومنه تسلل إلى القدس ولما طوقت القوات الاسرائيلية المكان ، لم تعثر عليه لأنه قد أصبح في بيت لحم. وكان يتنقل على دراجة نارية أو في سيارة تاكسي أو برفقة زوجة أحد الفدائيين وطفلة، أو يجتاز حاجزاً للقوات الاسرائيلية بسيارة تابعة للأونروا يقودها مصطفى عيسى اللفتاوي (أبو فراس) الموظف آنذاك في الأونروا.
يروي الشهيد فيصل الحسيني ما يلي: بينما كنتُ أتمشى في رام الله توقفت سيارة فجأة بالقرب مني، فإذا فيها ياسر عرفات الذي قدّم نفسه باسم "أبو محمد" ودعاني الى الصعود. وبعد عدة أيام التقينا في مخبئه، وسلمني قطعتي سلاح من طراز كلاشينكوف وساموبال. وبعد عدة أيام لم يأتِ أحد لاستلام القطعتين، فذهبت الى المخبأ، فوجدته مقفلاً. ولدى خروجي انقض عليّ الجنود الاسرائيليون واعتقلوني، وعثروا على السلاح، فحكمت بالسجن عاماً واحداً.
في أثناء إقامته متخفياً في الضفة الغربية، وعلى الرغم من مطاردة المخابرات الاسرائيلية له ليلاً ونهاراً، تسلل ياسر عرفات من مرة الى مدينة القدس، وتجوّل في الأمكنة التي عاش فيها سنوات طفولته. آنذاك كان باروخ كوهين أشرس الإسرائيليين في متطاردته ، وباء بالفشل. وفي ما بعد أطلق أحد الفدائيين النار على باروخ كوهين في مدريد 1973 فأرداه، ويُعتقد أن  الشهيد الجزائري محمد بو ضيا هو من أرداه. ومن المعروف أن عزت أبو طوق (خطاب) هو من استقبل ياسر عرفات ومجموعته في كهف قباطية. واستقبلتهما تودد عبد الهادي في جنين. وفي القدس نزل ابو عمار في منزل ابراهيم الشنطي. وفي رام الله استضافه هشام السعودي. أما مجموعته فكانت مؤلفة من: أبو علي المدني، عبد الإله الأثيري، أحمد قمحية، محمود أبو راشد، مازن أبو غزالي، ممدوح صيدم ( أبو صبري)، عبد العزيز شاهين، عبد الحميد القدسي، منصور أبو دامس، عبدالله السوري، عدنان الجولاني، محمد علي عمران.
تلك محطة واحدة من مساره الطويل الحافل بتذكارات نضالية فريدة ووقائع قلما اجتمعت لقائد مثلما اجتمعت لياسر عرفات.