خاص مجلة "القدس" العدد 326تحقيق: وليد درباس

يلتحقون بركب الثورة مبكراً وبالكاد اشتـدَّ عـودهـم، يغـدون جزءاً من مفرداتها، وفي مدرسة عرفات تنمـو قدراتهـم، تتوضّـح معالـم الانتماء والهوية لديهم، يترسـّخ تمسُّكهم بحق العودة وحبّهم لفلسطيننـا والتضحية في سبيلها، وبالوقـت ذاتـه تمسُّكهم بانتمائهم لـ"فتـح" مفجِّرة الثورة الفلسطينية المعاصرة وصاحبة الطلقة الأولى، وعلى درب الحرية والاستقلال يقدّمون الأرواح رخيصة، يرحلون وتبقى فلسطين، يرحلون وتبقى الفتـح عصيةًّ على الكسر.

"أحمد كمال كعوش، رائـف نوفـل، فتحـي زيدان" ثلاثة كواكب فتحاوية أصيلة، من أبناء مخيم المية ومية في ضواحي مدينة صيدا بجنوب لبنان، رحلـوا في عـزِّ عطائهـم ولكنَّ مآثرهم بقيَت حاضرةً تشهـد لهـم، ومن هذا المنطلَق تُدرِجُ مجلة "القدس" إضاءتها على مآثر هؤلاء الشهداء بسياق الوفاء والتقدير والاحترام لذويهم ورفاق دربهم وإخوانهم الحركيين.

تبنوا القضايا الوطنية الثورية والشعبية المطلبية على حد سواء

يُجمِعُ كلُّ مَن التقته "القدس" على الإشادة بمناقبية المناضلين الشهداء الثلاثة ودورهم بدرب الحرية والاستقلال، وإن تمايزت هذه الشهادة عن تلك بزوايا ومناحٍ معيّنة.

فينوّه أمين سر حركة "فتح" في مخيم المية ومية غالب الدنان إلى أن "أبو كمال كعوش، وابو أحمد زيدان، ورائف نوفل التحقوا بركب الثورة بزمن كان الطابع الغالب على العمل الوطني صدق الانتماء والعطاء والتضحية بدون حسبان للعواقب وأياً تكن النتائج، فواكبوا ثلة من القيادات والكوادر النضالية الفتحاوية يُشهد بحياتهم، واكتسبوا منهم ثقافة الإخلاص والوفاء، وشبـوا في حركـة "فتح" وعلى درب الياسر، ومع الوقت تأهّلوا لمراتب ومسؤوليات قيادية مهمة على المستوى العسكري والتنظيمي والشعبي، وكافحوا في مواقع المواجهة دفاعاً عن الثورة بالعديد من المواقع، وفي الوقت ذاته، كانوا أيضاً قريبين من الشعب في المخيمات، فتبنوا قضاياه الحياتية والمطلبية ما أهّلهم ليحوزوا على قيادة سفينة الحرية والاستقلال الوطني في الثورة الفلسطينية المعاصرة ".

ويرى الدنان بالمنحى إياه سبباً لأصحاب المشاريع الصهيونية وعملائها لاستهداف الفتحاويين من كوادر مفاصل العمل الحركي والوطني العام بهدف إضعاف حركة "فتـح" كونها صاحبة المشروع الوطني الفلسطيني من جهة، وخرق المركب الفلسطيني من جهة أخرى، ما يسهّل النيل من قدرات كافة الفصائل والقوى الفلسطينية وبدون استثناء، معلّقاً "هناك مقولة معروفة على أكثر من مستوى وصعيد وطني وشعبي (اذا فتـح بخير فالكل بخير)". ويختم الدنان بالقول: "عزاؤنا أن رحيل العديد من رجالات الفتح وكوادرنا لم يفُتَّ من إرادة الحركة أو تصميم أبنائها على الثبات والاستمرار بدرب الكفاح التي قضى دونها الشهيد الرمز ياسر عرفات".

من جهته يقول مصطفى الحاج، أحد أهالي مخيم المية ومية، "كنا نحسدُ الشهيد زيدان لبرودة أعصابه وقدرته على التحكُّم والضبط وتطويعه للصالح العام .. حبـُّه وإقبالُـه على تعبئة وتوعية الإخوة الحركيين وتنبيههم من مخاطر المشاريع المشبوهة والاحتراب لتفريغ المخيمات لم تتوقّف، كان يدعو باستمرار لمتابعة أي إشكال وحلِّه بمهـده، ولطالما طالبَنا بالحفاظ على العلاقة الحسنة والتعاون مع الجوار اللبناني".

أمّا عضو اللجنة الشعبية لمخيم المية ومية "تيسير ياسين" والذي عايشَ حقبتَي تسلُّم كلٍّ من الشهيد ابو كمال كعوش والشهيد رائف نوفل لأمانة سر اللجنة الشعبية، فيقول: "الشجيرات الخضراء الموزّعة بأرجاء المخيم تستذكر الشهيد رائف نوفل، فهو صاحب مشروع التشجير إياه، ومضى به لخواتيمه الطيبة، لا بل وكثيراً ما كان يجول عليها ويتفقدها، وننكش أرضيتها سوياً، ويسقيها بيده وحدث أن كلّف أحد الأهالي ويدعى "ابو جورج" ليعتني بها ما جعلَ المخيم أشبه كما وصفه زواره آنذاك ولأكثر من مرة بالقرية الوادعة والجميلة".

ويضيف ياسين "عُرِف الشهيد نوفل بسعة علاقاته وتواصله الحسن مع الجوار اللبناني ومشاركته لزملائه باللجنة بتنفيذ المهام وتحمُّل المسؤوليات وتحسُّسه لقضايا وحاجات اهل المخيم، وسعيه لتوفير مناخات الاستقرار الداخلي"، وبالسياق إياه فإنَّ الشهيد نوفل تصدّى لحل إشكال داخلي بالمخيم بهدف تطويقه وقضى جراء اصابته برصاصة طائشة.

من جهة أخرى يستذكر ياسين مرحلة الاجتياح الاسرائيلي العام 1982 وتشكيل الشهيد ابو كمال كعوش آنذاك خليةً سرية من عشرة مناضلين وتيسير أحدهم لمقاومة الاحتلال، واستحضار بضعة بنادق مخبَّأة بأرضية جورة الحمام، وتواصل الخلية مع محكمة الشعب في عين الحلوة بالتسلُّل عبر الوادي للحصول على السلاح، وبخصوص الشهيد زيدان يقول: "ما زلت أذكـرُ حديثه إثر لقاء القوى الفلسطينية بالمية ومية.. حيث قال لو كان أمـن المخيم على حساب دمي فليكـن دمي".

قدموا مصلحة المخيم على مصالحهم الشخصية

يقول ابن مخيم المية ومية أبو حاتم كعوش: "كان ابو كمال فلسطينياً قبل أن يكون ابن فتح، كرّس حياته لخدمة قضية شعبه وأهله في المخيم، وكان ذا كاريزما قيادية وأخاً للجميع"، ويرد سبب رحيله لدار الحق لـ"شدة قربه ومحبته وحمله لهموم الناس ومتابعته حاجاتهم بعناية وصدق لدرجة كانت تسبّب له التوتر العصبي بين الحين والحين، وبنهاية المطاف ارتفع ضغطه فوق طاقة البشر، وهذا ماحلّ به ذات ليلة ماطرة اثر محاولاته العديدة لإعادة الإنارة لأهل المخيم حيثُ قضى شهيداً".

في حين يؤكّد أبو أحمد ماهر، الذي يقطن في المخيم بدوره، أن دعوات الشهيد زيدان المتكرّرة بعدم الاحتكام للسلاح بحل المشاكل وإن يكن مع الخصم السياسي او على المستوى المجتمعي لم تتوقّف، وأن حرمة الدم الفلسطيني من المسلَّمات بقاموسه مردفاً "كان صمام أمانٍ للمخيم، وجرّاء محبّته وتفهُّمه لطبيعة المخيم وحاجاته وأسلوبه وتواصله مع عامة الناس وتجواله في المراكز والمؤسسات الخدماتية من أونروا وخلافه حازَ على احترام الناس واستعدادهم للتعاطي الايجابي مع طروحاته، ويتابع "الشهيد زيدان اعتُقِل بأنصار لمدة عام ونصف، ورحل بالتبادل إلى الجزائر، ومنها التحق بالقوات في اليمن، ومن ثم غادر إلى طرابلس لبنان، واستقرَّ العام 1985 في مخيمه، وبدأ يعمل على إعادة تشكيل التنظيم الحركي آنذاك".

 وحسب حديث "ابو طارق فادي" "كانت جنازة الشهيد زيدان مهيبة وبمثابة مظاهرة شعبية شاركت فيها مختلَف الشرائح المجمتعية والسياسية الفلسطينية ومندوبون من بلدة المية ومية بالجوار". ويضيف أبو طارق، الذي مضى على سكنه في المية ومية سنوات عديدة، "قضى الشهيد زيدان عمره بالعمل الفدائي، كان يستمع للناس، ينصت لوجهات نظرهم وطروحاتهم وصولاً للأفضل، كان يُقدم عمله الحركي والوطني العام على حساب قضايا اهل بيته، وكان يعود المرضى من عامة المخيم، ويسعى لتأمين ما أمكن من الدواء وعلى حساب ما أمكن من ضمان أفراد قوات الأمن الوطني طرفه، وباختصار.. كان هامةً ليس فقط للمخيم بل وخارج حدود المخيم، فتواصله مع المسؤولين الفلسطينيين ومع اللبنانيين كان مجيّراً لصالح توفير الخدمات وحلحلة شؤون الأهالي، وذات مرة استعصى على البعض ايجاد مكان لحفر بئر ارتوازي بمثابـة هبة من الخيّرين، فحال تدخله آنذاك وتأمينه مكاناً للحفـر بعد تمنُّع الآخرين دون خسارة المخيم لهذه الهبة".

أمّا الفعالية الشعبية "ابو يوسـف عبدالمعطي"، وهو أحـد أعضاء لجنة كبارية مخيم المية ومية أو ما تبقى منها، فيقول في مقاربة منه بين زمن اللجنة إياها وحال هذه الأيام: "(اللي بروح ما بيجي احسن منه)، في زماننا عندما كان عضو اللجنة يتدخلّ كانت الأمور تحل فوراً (ويا دار مادخلك شر)، أمّا اليوم فلا أحد يستمع لأحد، ما تسبّب بلزوم من تبقى من أعضاء اللجنة بيوتهم صوناً لهيبتهم"، ويتابع "خسارتنا كبيرة في المخيم. لقد فقدنا عدداً لا بأس به من شباب المخيم ومنهم الشهداء الثلاثة الذين كانوا يعملون لصالح المخيم.. قد يكون ذلك ناجماً عن عامل خارجي أو تحريض على المخيم، وقد يكون هناك أشخاصٌ مأجورون وانتهازيون لهم غايات مادية، لذا علينا عدم التجاوب مع محاولاتهم،  وعلينا إيجاد الحلول لقضايانا ومشاكلنا"، ويختم بالقول "على كل شخص أن يُحاول الإصلاح في حدود بيته وقدر الإمكان في مخيمه، نحن نريد الاستقرار لا اكثر.. ولا نريد أن نصل لمرحلة تؤدي لتهجير بالمخيمات، لذا نطالب الأجاويـد والكبار أن يعملوا على ضبـط الأمور، ويجولوا في المخيمات، ويتواصلوا مع الناس ويصلحوا ذات البين".