خاص مجلة "القدس" العدد 326 تحقيق: ولاء رشيد
يُعدُّ التطريزُ أحدَ أبرز أوجه التراث الفلسطيني الذي حافظَت عليه الفلسطينيات وتوارثنَهُ عبر الأجيال كحرفة تمثّل موردَ رزقٍ لفئة كبيرة منهنّ في فلسطين. غيرَ أن هذه الحرفة ما لبثت أن تحوّلت بعد النكبة ومحاولات الاحتلال الإسرائيلي المستميتة لسلبنا هويّتنا وتراثنا إلى وسيلة نضالية تنتهجُها الفلسطينيات في مخيمات الشتات في لبنان وتحملُ رسالة ثقافية وطنية تتكاملُ مع النِّضال السياسي والميداني لشعبنا.

تمكينٌ للنّساء وحفاظٌ على الهويّة
لا يخفى أنَّ حرفة التطريز تعدُّ من أصعب الأعمال التراثية التي تتطلّب دقّة واتقاناً وصبراً كبيراً، غير أنَّ الفلسطينيّات في عين الحلوة ولا سيما في مشغل الشهيدة هدى خريبي تمكّنَّ من توظيف قدراتهن الإبداعية في هذا الميدان، حتى بتنَ ينتجن العديد من المطرّزات الفلسطينية المتنوّعة واللافتة للنظر، والتي يتم عرضها في معرض التراث الفلسطيني الدائم المجاور للمشغل. وحول تأسيس المشغل وأهم أهدافه تقول عضو قيادة حركة "فتح" إقيم لبنان عليا العبدالله المشرفة على مشغل الشهيدة هدى خريبي ومعرض التراث الفلسطني الدائم في عين الحلوة: "خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان دُمّرت مؤسّسة صامد التّابعة لـ"م.ت.ف"، والتي كانت تُعنى بالتراث وتهدف لتشغيل عوائل وأُسَر الشهداء، وبعد انسحاب العدو الإسرائيلي من لبنان كان أول ما فكّرنا به هو كيفية المحافظة على التراث الفلسطيني من الاندثار وتوفير فُرَص عمل للأخوات من أُسَر الشهداء والعائلات غير الميسورة، فكانت فكرة تأسيس مشغل التطريز في العام 1985، حيثُ بدأنا كمجموعة من الفلسطينيات بالعمل ضمن إمكانيات محدودة، وبعد إقامة أول معرض لنا وحصولنا على مردود مالي، بدأنا بتطوير العمل، وبات المشغل يضمُّ عدداً كبيراً من الفتيات والنساء، ونظّمنا دوراتٍ تدريبيةً لهن في التطريز التراثي لتطوير مهاراتهن، وبعدها شرعنا بإقامة العديد من المعارض في مختلف المناطق اللبنانية بهدف تعريف العالم على تراثنا الفلسطيني الذي يمثّل هويّتنا وحضارتنا وثقافتنا. كما شاركنا في العديد من المعارض التي أُقيمت في لبنان والنرويج وتركيا وإيران وغيرها، وعبر هذه المعارض التي أقمناها وشاركنا فيها تمكّنا من اثبات حضورنا كشعب فلسطيني متمسّك بقضيته رغم سلبه أرضه، ورسّخنا هذا التراث في أذهان الذين حضروا المعارض من لبنانيين وعرب وأجانب، وفي إيران شاركنا في مسابقة للأشغال الحرفية، وحلَلنا ضمن العشرة الأوائل في انجاز العمل التراثي، وأخذَ القيّمون على الفعالية سجادة من انتاجنا أبدوا إعجابهم واعتزازهم بها، ليضعوها في أحد المتاحف".
وتضيف العبدالله: "نحن مستمرون في هذا العمل للمحافظة على تراثنا ونقله من جيل إلى جيل، لا سيما في ظل تنامي المحاولات الإسرائيلية المتواصلة لسرقة تراثنا ونسبه إلى أنفسهم وليس آخرها الباس مضيفات شركة الطيران الإسرائيلية أزياء فلسطينية مطرَّزة في محاولة منهم للترويج بأنها تمتُّ لكيانهم، وإلى جانب الاحتلال فنحن أيضاً في مواجهة دائمة مع الذين يحاولون المساس بتراثنا، إما عبر استخدامه بطريقة غير لائقة، كما شاهدنا في الأسبوع الماضي قيامَ إحدى المصمّمات بتصميم أحذية بنقوش الكوفية الفلسطينية والشماغ الأردني، وهو أمرٌ مسيء لكرامة الشعب الفلسطيني، كذلك يحاولُ البعضُ تحديثَ التراث الفلسطيني بطريقة تلغي هُويّته، حيث أنّ بعض المؤسّسات العاملة في لبنان أبدت نيَّتها العمل معنا شريطة تحديث التراث الفلسطيني على طريقتها زاعمةً أن التطريز التراثي ليس ملكنا وإنما تنتجه جميع الدول، ولكننا رفضنا ذلك لأننا لن نسمح بالمساس بتراثنا الفسطيني الأصيل الموجود منذُ زمن الكنعانيين، ووجوده مُثبَت منذُ سنوات طويلة قبل النكبة، حيثُ كان هناك متحَف في القدس لهند الحسيني يعرض تراثنا. ونحن أخذنا على عاتقنا مواصلة هذا العمل وتسويقه وايصاله حيث نستطيع، واغتنمُ الفرصة لأوجّه التحية للأخوات في المشغل اللواتي يبذلن كل جهدهن لانجاح هذا العمل التراثي الذي يعد جزءاً من النضال الوطني، لأن كل فردٍ يناضل بطريقته الخاصة، والمرأة بدورها تناضل بعدة طرق بينها حفظ التراث عبر التطريز".
وحول مميّزات القطع التي ينتجها المشغل وأبرز أصنافها  تقول العبدالله: "ما يميّز عملنا أن التطريز بكامله يدوي، ونستخدم فيه الخيوط الحريرية و"الكنفا" الألمانية الأصلية لتليق بتراثنا. واليدوي، خلافاً للمنتَج عبر الآلات، متينٌ ولا يهترئ بمضي السنوات ويمكن توارثه عبر الأجيال، ولكن ثمنه أعلى من المطرّز بالآلات بطبيعة الحال لذا ليس الجميع قادرين على شرائه، خاصةً أن عملية الشراء مرهونة بالوضع الاقتصادي الذي أصبح اليوم متردياً، ولكن المردود المالي في النهاية ليس غايتنا. فصحيح أننا نفرح إن جنينا مردوداً مالياً، ونسارع لشراء المستلزمات منه لتطوير عملنا، إلا أننا في النهاية نحمل هدفاً وطنياً سياسياً لا تجارياً، وننتج القطعة المطرّزة لنتغنى بها، وُيهمُّنا بالدرجة الأولى أن يراها الناس وإن لم يشتروها، لطبع التراث والهوية الفلسطينية في أذهانهم. كذلك نحرصُ على وصول القطع المطرزة لكل بيت، فيكون فيه ما يرمز لفلسطين وتراثها، لذا لا تقتصر مطرَّزاتنا على الثوب الفلسطيني والعباءات، بل تشمل أيضاً: "الكاب"، والكوفية، والشالات على أنواعها (الطويل، المثلث، غطاء الرأس، الوشاح...)، بالإضافة إلى أغطية النظارات والهاتف المحمول وعلبة المناديل الورقية، والمحفظة، والحقائب، والاكسسوارات، واللوحات، وغيرها...، وبعض المطرّزات ننجزها بناءً لطلبيات. كذلك نستقبل وفوداً زائرة من الطلاب والمؤسسات والجمعيات كجمعية أطفال الصمود التي زارتنا اليوم جائلةً في المشغل والمعرض".
وتختم حديثها بالقول: "ونحن نمرّ بذكرى النكبة، هذه الحادثة الأليمة التي أثّرت على مجتمعنا ونسيجنا الفلسطيني، نستذكر الأيام الصعبة والحرمان والمعاناة التي عشناها، ولكن على صعوبة ما مررنا به فإنَّ ما نشهده اليوم أصعب وأكثر خطورة، فحين هُجِّرنا من وطننا خرج الناس والعائلات معاً، ولكن نكبتنا اليوم هي هجرة الشباب الذين يتجه كلٌّ منهم بمفرده بلا وجهة أو مصير محدّدين، وغداً سيحملُ كل شخص من العائلة نفسها جنسية مختلفة، وهذه هي النكبة الحقيقية. لذا أتمنى أن يعي شبابنا خطورة هذا الأمر، وأن يعم الأمن والاستقرار في مخيماتنا التي من واجبنا حمايتها لأنها بوابتنا نحو العودة إلى وطننا، وأن يتمسّك الجميع بكل ما يمت لتراثنا وهويتنا الوطنية بصلة، وأؤكّد أنا سنبقى متمسّكين بحق العودة مهما طال الزمن، وبإذن الله بقيادة الرئيس محمود عباس وبوعي قيادتنا السياسية نأمل أن تتم المصالحة الفلسطينية، لأن الانجازات تتحقّق بالوحدة والتكاتف، وبوحدتنا الوطنية نرهبُ أعداءنا ونكسبُ ثقة أصدقائنا، على أمل أن نحتفلَ العام القادم بمثل هذا اليوم بتحرير فلسطين".
بالإبرة يُحاكين إرثَ فلسطين التراثي
يضم مشغل الشهيدة هدى خريبي نحو 20 سيدة فلسطينية يبدعن في التطريز التراثي، ومن بينهن السيدة دلال الراعي، والتي تعمل في المشغل منذُ 14 عاماً، وحول امتهانها التطريز تقول: "التطريز جزء أصيل من تراثنا الفلسطيني الذي حملناهُ معنا بعد تهجيرنا من الوطن، وبالنسبة لي فقد كنتُ أجيد التطريز قبل عملي في المشغل، كوسيلة لكسب العيش، وأداء رسالة وطنية في الوقت ذاته".
وتضيف "لكل بلدة أو مدينة فلسطينية رسمة تُعرف بها، فالرسمة التحريرية مثلاً خاصة بالقدس، وبمجرد النظر للقطعة تُعرَف البلدة الخاصة بها، ونحن نقوم بتصميم الرسومات ونطرّزها بالقطب المختلفة كـ"اللف" و"الأكس"، وغيرها، كما نقوم بصنع الإكسسوارات التي ترمز إلى التراث الفلسطيني".
أمّا السيدة انتصار فلم تكن تُلِمُّ بمهارة التطريز قبل التحاقها بالمشغل، حيثُ توضح: "التحقُت في البداية بالمشغل لمزاولة أعمال إدارية، ولكن بعد مشاهدتي عملية التطريز أحسستُ برغبة ملحة لاتقان هذه المهارة التي تحمل أهمية كبرى كونها تمثّل حافظة للتراث الفلسطيني. واليوم أصبحتُ أطرّز مختلف المقتنيات من أثواب، وأغطية وسائد، ولوحات وسواها".
في حين أن السيدة هويدا كامل عبدو كانت قد اتقنت التطريز منذ سن المراهقة كهواية تحوّلت لاحقاً لحرفة تزاولها وتعتاش منها، والتحقت بالمشغل منذُ 29 عاماً. وعن أهمية التطريز التراثي تقول: "يعكس التطريز ملامح تراثنا الأصيل الذي يحاول العدو الإسرائيلي سلبه، مما يحتّم علينا مواصلة المحافظة على هذا التراث، لأن التمسّك به هو تمسّكٌ بقضيتنا وهويتنا الفلسطينية".
بأنامل أعيتها السنين وبخيوط من غصةٍ وحنين تواصلُ الفلسطينيات في مشغل الشهيدة هدى خريبي نسجَ فلسطين وتاريخها وإرثها الثقافي عبر فنِّ التطريز العابر للأجيال، شاخصاتٍ نحو الوطن وممنّياتٍ أنفسهن بعودة قريبة طال انتظارها.