افتتاحية العدد 326 من مجلة القدس

لقد استذكرنا معاً تفاصيل نكبتنا، واستعدْنا تلك المشاهد المؤلمة. شاهدنا كيف لجأ أجدادنا وآباؤنا إلى الخيام المنصوبة في المنافي. أبدع الهواة من ابناء جلدتنا في سرد الحكايات مع شيء من الآهات، والدمعات، وراح الشباب يتأملون ويتفحصون وجوه الكبار لقراءة الماضي الأليم بكل ما فيه من مجازر وضحايا، وتشتيت وتشريد، وبُعْدٍ عن الارض والدار، ورحيل إلى المجهول.

الفلسطينيون لم يدركوا يومها أنَّ الغربة ستعيش معنا عشرات السنين، وأنّ التيه سيلفُّنا في غياهب الضياع، وأنَّ المشوار بعيد، ولم يعلموا أنَّ ارضهم التي عاشوا فيها منذ آلاف السنين اصبحت لغيرهم، وانهم اليوم مشردون أيضاً في ارضهم، وأنَّ مصيرهم اليوم تقرره عصابات الإجرام وقادة الارهاب.

العربُ ايضاً ظنوا أن النكبة مكتوبة فقط على الشعب الفلسطيني، وعلى ارضهم – وهذا نصيبهم – متناسين للوهلة الأولى أن الشعب الفلسطيني جزءٌ  من الامة العربية، وأنَّ ما يتعرض له من مخاطر سيطالها لأن العدو إلاسرائيلي يدرك أن الخلاص من الكل يبدأ من خلال التخلص من الجزء. وهنا اخطأ العرب عندما أخذوا موقف المتفرِّج على مأساة فلسطين . وها هي القضية الفلسطينية تدفع اليوم ثمن التردد في الموقف العربي، وموقف التخاذل الرسمي، وموقف اللاوعي قومياً ووطنياً حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه عربياً، واليوم الكثيرون يعضُّون الاصابع ندامةً على مواقف لم تكن مشرِّفة.

اليوم، الجيمعُ يدفعُ الثمن دماراً، وقتلاً، وتشريداً، واستباحةً، وخراباً، ورعباً، فالوطن العربي يكاد يتحول إلى فلسطين كبيرة تنزفُ دماً، وتتمزَّق إحتلالاً وظلماً، وتعيش مستقبلاً مجهولاً.

آلا نستطيع القول أنَّ الوطن العربي يعيش اليوم أَمَّ النكبات، وإذا كان الشعب الفلسطيني قد منَّ الله عليه بالقائد الملهم، والرمز الذي شغلَ العالم بعبقريته الثورية، وتجربته الكفاحية، ياسر عرفات، الذي اعاد رسم الخريطة الفلسطينية، واستعاد الهوية الوطنية، وأعاد الثورة إلى أرض الوطن السليب ليكون وجهاً لوجه ضد الاحتلال، ويصارع هناك من اجل البقاء، وانتزاع الحرية والاستقلال. إذا كان هذا هو ياسر عرفات الختيار، طائر الفينيق أبو عمار، الذي قاد أطول ثورة في العصر الحديث، فمن هو الذي سيتقدم صفوف الامة ليصنع حريتها، وامجادها، ويحررها من الارتهان والتبعية، وينقذها من الانهيار؟!

إنطلاقاً من واقع الامة العربية، والانهيارات المتتالية أصبحنا اليوم كقضية مركزية فلسطينية نفتقر إلى الحاضنة العربية التي تستطيع إحتضان نضالات شعبنا، لأن هذه الامة تفتقر إلى مقومات صمودها، وبقائها، وحرية قرارها. الكيان الاسرائيلي الصهيوني يستقوي بالولايات المتحدة، وهي حاضنة دولية وتربطها علاقات بها إستراتيجية. فيتنام مثلاً تمتعت بحضانة روسية صينية أثناء صراعها مع الاستعمار، وانتصرت.

في مختلف المحطات قاتلنا وحدنا، ودفعنا الثمن غالياً، وقدمنا آلاف الشهداء، لأننا صممنا على البقاء، فقد خرجنا من مجازر صبرا وشاتيلا أحياء رغم الضحايا والاشلاء، وصمدنا في اتون الاجتياح، ونيرانه الملتهبة من الجنوب إلى بيروت، ومن بيروت خرجنا وبيدنا علم فلسطين، وباليد الاخرى بندقية الثوار. وعندما سئل الرمز ياسر عرفات إلى أين أنت ذاهب من بيروت ومن طرابلس؟ قال لهم إلى القدس.....

ثم فيما بعد أضاف : "عالقدس رايحين شهداء بالملايين". إنَّ الثورة الفلسطينية وقيادتها المؤسسة لم تكن عاجزة في محطة من المحطات، فهي تعي ماذا تريد، وهي أيضاً تعرف موازين القوى، والمعادلات السياسية الاقليمية والدولية، وهذه الثورة التي التزمت منذ البداية بالضوابط الوطنية والاستراتيجية لنضال شعبنا لم تتراجع عن هذه الركائز الأساسية وابرزها:

- الحفاظ على م.ت.ف البيت السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني.

- التمسك بالمشروع الوطني الفلسطيني لأنه هو الذي تمكن من تجميع اطياف الشعب الفلسطيني حول فكرة أنَّ الوطن للجميع، وأن الاحتلال الصهيوني هو العدو لنا جميعاً.

- الحفاظ على القرار الفلسطيني مستقلاً، وينبع دائماً من المصالح الفلسطينية العليا، مع رفض الوصاية والتبعية لأي طرف كان.

- التمسك بالموقف المبدئي، وهو عدم التدخل في شؤون أي دولة وبالمقابل عدم السماح لأيٍّ كان أن يتدخَّل في شؤوننا.

- رفض  أية مساعدات مشروطة، لأن فلسطين لها حقٌ على الجميع، وفلسطين لا تُشتىرى ولا تُباع وهي الاكبر منَّا جميعاً.

- أن بوصلة كفاحنا دائماً متجهة نحو العدو الاسرائيلي،  ولا نقبل أن ندخل في صراع لصالح هذا الطرف أو ذاك، فالطرفان يجب أن تصبَّ جهودهما لصالح فلسطين وصراعها     ضد الاحتلال.

- نحن قبضنا على جمر المعاناة والحصار، والجوع، والقهر من أجل أن تبقى الثورة في مكانتها، ومن أجل أن تستمر حركة فتح بأصالتها الثورية .

نحن الفلسطينيين وبعد مررو ثمانية وستين عاماً ما زلنا نتمسك بقضيتنا، ونرفض التنازل عن ثوابتنا، وفلسطين بالنسبة لنا هي قضية حياة او موت، ونحن نحميها برموش عيوننا، ومن اجلها قدَّمنا ونقدِّم الشهداء والجرحى والاسرى وما زلنا، ولا نركع، ورغم حالة التخلي عنا، ورغم إستهدافنا، ورغم محاولة البعض أن يتاجر بنا وبمصيرنا إلاَّ أننا لن نتخلى عن نهج ياسرنا، ولن نخون مدرسة الفتح التي منحتنا الوعي الوطني، ولن نضيِّع البوصلة، وسنحمي حركة فتح الرائدة صاحبة المشروع الوطني التي يريد البعض تمزيقها حتى تسهل عليه عمليةُ الانقضاض على ما تبقى من تراثنا الوطني.

ومهما تكالبت علينا الاطراف والجهات التي تعمل في خدمة المشروع الصهيوني، مهما حاولت توفير حاضنة عربية رسمية له في وطننا العربي، إلاَّ أَننا نؤكد وقوفنا بصلابة، وتمسكنا بأمانة الشهداء، وبالقسم الذي أقسمناه.

ما نريده اليوم هو بدون تردد ما اكدنا عليه في مؤتمراتنا، وفي برامجنا السياسية، ولن نتنازل عن حقنا في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي المحتلة العام 1967، وحقنا في أن تكون القدس عاصمة دولة فلسطين، ولا مساومة على ذلك، كما اننا لن نساوم على تنفيذ حقنا المقدس في العودة إلى أرض فلسطين التاريخية ، إلى الديار التي هُجِّرنا منها العام 1948، وإلى إزالة الاحتلال والاستيطان، وتحرير المقدسات من براثن التهويد. نؤكد مرة أخرى بأن أي قيادة عربية أو غربية تزيد التعاطي مع الموضوع الفلسطيني يجب أن تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، وإلى إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الطبيعية، وإلى وجود قرار واضح بإزالة الاحتلال، وضمان حماية الشعب الفلسطيني، واحترام الامم المتحدة لقراراتها، ووقف المهزلة التي فرضتها سلطات الاحتلال وهي التي تستأسد بعنصريتها وإجرامها الدفين على الشعب الفلسطيني.

أما ما يريد الجانب الاسرائيلي فَرْضَه على أرض الواقع فهو مناقض تماماً لكل ما أقترحته الشرعية الدولية نفسها، من أجل إستعادة الحقوق الفلسطينية، وإنها بكل وقاحة جعلت من يوم نكبتنا يوماً لاستقلالها، وأطاحت بكل حقوقنا الوطنية ، ومارست الهيمنة والقرصنة على الامم المتحدة، ومزَّقت كافة قراراتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وعطَّلتها امام القاصي والداني، وامام العربي والأعجمي، ومزَّقت هيبة الرباعية الدولية عندما جعلتها عاجزة عن أخذ القرارات المنصفة.

اليوم وبعد أن سقطت الحاضنة العربية، وفقدت المبادرةُ العربية للسلام قوتَها وحضورَها، وبعد أن غابت عواصمُ عريقة عن الفعل والتأثير والتصدي والتحدي الذي كان يُرعب العدوَّ الإسرائيلي، فإن َ الكيان الصهيوني العنصري يسرح ويمرح  براً وجواً وبحراً دون مساءلة، وبحريَّة مطلقة، طالما أن الجميع منشغل بذاته، وكلٌّ يبحث عن أمنه، وكَسْبِ ودِّ الولايات المتحدة التي تدير الصراع والازمات ولا تحلُّها، لأنه لا مصلحة لها في إيجاد الحلول، فهي وربيبتها في أمن واستقرار، أما وقود الصراع فهو من ألاطراف الأخرى المحلية والاقليمية والدولية، ولذلك هي اليوم تتمرَّد على الجميع وتطالب ما تريد بإستعلاء، وتحتقر المجهودات الدولية لأنها حسمت أمرها فهي:

- تريد من العالم وخاصة من الفلسطينيين أن يعترفوا بها دولةً يهودية أي أن إسرائيل دولة قومية لليهود في العالم .

- ترفض أي حديث عن حل الدولتين الذي أقرَّته قرارات الشرعية الدولية، وأعلنت عن نيتها ضم المنطقة ج(c) ومساحتها ما يزيد على 60% من مساحة الضفة الغربية.

- ترفض وقف أو تجميد الاستيطان، وتعتبره شرعياً بالنسبة لها ، رغم أن قرارات الشرعية الدولية، وكافة الدول، وحتى الولايات المتحدة تعتبره غير شرعي، ولكن الاحتلال لا يقيم وزنا لأية قرارات أو مبادرات، أو مؤتمرات لا تنسجم مع رؤيته.

- ترفض عودة اللاجئين الفلسطينيين حسب القرار الأممي 194، وتسعى إلى إيجاد حلول أخرى كالتوطين، أو نقل اللاجئين إلى قطاع غزة وجواره، بإعتبار الضفة الغربية هي دولة الاستيطان، وأن حل موضوع اللاجئين لا يكون على حساب الكيان الاسرائيلي.

- ترفض أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية وبالتالي فالقدس بكاملها بعد تهجير وطرد اهلها هي عاصمة الكيان الاسرائيلي.

- هي تقول علناً أنها لن تقبل بحل الدولتين، ولا بحل الدولة الواحدة أي التعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة.

- وبالتالي فإن الفلسطينيين في الضفة إما أن يعيشوا في كانتونات معزولة تحت رحمة السيادة الاسرائيلية، وإما أن يرتبط وجودهم بالسيادة الاردنية.

- هي أيضاً وعلى مرأى ومسمع كل العالم، ومجلس الأمن، والجمعية العمومية، ومؤسسات حقوق الانسان، والجامعة العربية، والمؤتمر الاسلامي، نعم هي تمارس القتل المتعمد لأطفالنا ونسائنا، وهي تحجز جثامين الشهداء ولا تسلمها إلاَّ بشروط، وهي تهدم البيوت، وتدنِّس المقدسات، وتفرض التقسيم المكاني والزماني في الاماكن المقدسة، وهي نفسها تهجِّر أهالي القدس، وتنكِّل بأهالي الشهداء، وتصادر الاراضي، وتهوِّدها. وتنكَّل بالاسرى والأسيرات خاصة المرضى. وتدمِّر المؤسسات والمنشآت.

أمام كل هذه الهجمة الصهيونية الاجرامية والعنصرية. وأمام صمت وتواطؤ أصحاب القرار الدولي، وأمام إنكسار الموقف العربي، فما هو المطلوب فلسطينياً حتى نستمر بالحفاظ على تماسكنا وإنجازاتنا الوطنية.؟!!

الشيء المهم أن تكون كافة الفصائل الفلسطينية على مستوى المسؤولية، وأن تحترم ما وقَّعنا عليه في القاهرة منذ خمس سنوات، وان نتراجع عن الانقسام إحتراماً لأرواح الشهداء، وأن نوجِّه صفعةً للكيان الاسرائيلي الذي يراهن في كل حساباته على إنقسامنا، وأن نختار المصالحة وعودة قطاع غزة إلى الضفة الغربية لنقول للعدو الغاصب نحن أبناء شعب واحد، ولن نسمح للعدو الاسرائيلي أن يحقق أحلامه الصهيونية على حساب أهدافنا الوطنية.

الانقسام هو خدمة للصهيونية، والمصالحة تعني الاعترافَ بأنَّ فلسطين لنا، وأنها أقدسُ وأجلُّ من كل حساباتنا الفصائلية.

دماءُ شهدائنا تستصرخنا، وعذاباتُ أسرانا تصرخ في وجوهنا، وأنَّاتُ جراحنا تجلدُ ضمائرنا... ولكن هل من مجيب؟!!