لم يكن ياسر عرفات ليتنبأ بالقادمِ، فلم يكن عرّافا أو منجما أو كاهنا ولم يكن يحتاج لأن يكون أي من هؤلاء عندما شخّص صعوبة الدرب ومشاق النضال وحجم العقبات والعوائق التي تعترض وستعترض العمل الفدائي.
منذ الرصاصة الأولى بل وما قبلها، ربما لمزاياه القيادية وامتلاكه للرؤية وحسن النظر كان يدرك عِظَم المسؤولية الملقاة على عاتق الرواد الأوائل، فعِظم التضحيات يجب أن تناظر عِظم القضية، وعظمة الرجال لا تظهر إلا بالمهام العظيمة، والمهام العظيمة هي دوما صعبة وقد يراها أصحاب الهمم النافقة مستحيلة، ومن هنا كان القرار صعبا أن تنطلق حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" بعد النكبة عام 1948.
تلك النكبة التي خلفت صدمتها للوهلة الأولى حطاما بشريا ونفسيا واجتماعيا وثقافيا عكس نفسه بالذهول والتشتت وافتقاد السند والاحباط الشديد، وعكس نفسه بالبحث عن الذات في ظل الضياع الذي أصاب الأمة والشعب الفلسطيني فطفق يبحث عن حقيقة هويته فيغرف من الأفكار "الصلبة" التي افترضت بذاتها الكمال أو القداسة، وافترضت بذاتها المطلق والشمولية، وافترضت بذاتها الانتصار بالشعارات والامتداد.
الفلسطينيون-بعد تجاوز الصدمة نفسيا-هم الذين رفضوا الإبحار طويلا في مركب البؤس واليأس والإحباط فتوزعوا بين تيارات الأمة الكبرى آنذاك وهي التيارات أو الأحزاب التي تولدت إثر صراع عميق داخل الأمة.  يقول صلاح خلف (أبوإياد) الشهير بخطاباته الحماسية التحفيزية المفعمة بالأمل عن "الحفنة الطيبة من الشباب التي انطلقت" أنهم "جمعوا يأس الأمة العربية وحولوه إلى آمال"
(في عام 1965 عندما انطلقت حركة فتح لم يكن عددنا كبيرا، كان العدد بسيطا جدا، وإنما كانت الفكرة في نظرنا كبيرة جدا، لأننا كنا نعتقد أن الرصاصات التي سنطلقها في الأراضي المحتلة، لا يمكن أن تعيد لنا فلسطين، إنما هذه الرصاصة لها مردود على نفسية الإنسان الفلسطيني، لا بد أن يشعر الإنسان أنه موجود أولا) ويضيف صلاح خلف (أبوإياد) في موضع آخر (أقول نحن كشعب فلسطيني كان لا بد أن نعود إلى الخارطة السياسية، قيمة كل نضال شعبنا في عام 1965 أنه أعاد هذا الشعب الفلسطيني إلى الخارطة السياسية).

نهوض أمة وتشظي أخرى
تشظّت الأمة العربية والأمة الاسلامية على مدار زمني طويل ارتبط بالنهوض الأوروبي الذي ترافق مع تغلغل عقلية الهيمنة والاستعمار والاستبداد الاوروبي الذي وجد شكله الحقيقي من خلال احتلال أراضي الغير تحت ادعاءات النقاء والطُهر والتقدم للرجل الأبيض ، وتحت مدامك الفكر العنصري الذي أباح النظر للأقوام الأخرى من زاوية السيد المطاع الذي يحمل الحضارة للوحوش وهو السيد الذي ينبغي من الاتباع الطاعة له وتقديم القرابين والشكر لإلهِهِ.
كان المطلوب في ظلام (الاستعمار) الغربي أن تقدم الشعوب ثقافتها وروحها ودينها وقوميتها وإنسانيتها وخيراتها وأرضها فداء للرجل الأبيض الذي افترض امتلاكه لكل الحقائق وافترض امتلاكه للحقيقة الدينية، وافتراض أن هيمنته تشكل قدرا على الآخر أن ينصاع له، فسوغت العقلية الاستعمارية لنفسها النظرة الاستعلائية والاحتقارية لشعوب الأرض فاستعبدتها في فترات الصراع الاسباني البرتغالي على المستعمرات، وما تلاها من فترة الصراع الاستعماري الثقافي – الاقتصادي الانجليزي الفرنسي، هذا الصراع الذي حط رحاله في منطقتنا العربية بقوة منذ القرن التاسع عشر ثم تألق إثر الحربين الاوروبيتين الكبريين (المسميتين الحرب العالمية الاولى والثانية)، وما كان للنزاع السلطوي ونزاع النفوذ والمصالح الاقتصادية إلا متوافقا في هذه العقلية مع نزعات التفوق والتي وجدت ضالتها بعد تحطم الامبراطورية العثمانية.

فلسطين في ثلاثة وجوه استعمارية
نالت المنطقة العربية العنت والاضطهاد والاستعمار اللا أخلاقي سواء في مناطق الاحتلال والهيمنة في الخليج العربي من البرتغاليين (تمكن البرتغاليون من الوصول إلى الهند بعد اكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح وسرعان ما أسسوا لهم إمبراطورية في الشرق. في عام 1507م تمكن اسطول برتغالي يقوده ألفونسو دي ألبوكيرك من احتلال مسقط وصحار وخور فكان ثم هرمز التي وقع ملكها اتفاقية الولاء للتاج البرتغالي، في عام 1521 سقطت البحرين بيد البرتغاليين.)، ومن الانجليز لاحقا، أو في الجزائر منذ احتلال واستعمار الجزائر العام (1830م)، ثم بلغت ذروتها بعد الحرب (الاوروبية – العالمية الاولى 1914-1918م) والاتفاق على تقسيم العالم العربي في (سايكس بيكو عام 1916) ثم في (سان ريمو) عام 1920، وما كان ذلك بغريب على العقلية التي لا ترى في الآخر إلا خادما وعبدا. ومن هنا وقعت فلسطين في صلب المخطط  الاستعماري الاوروبي على ثلاثة أوجه:
 كان الوجه الأول منه هو: ضمان الهيمنة والاغتصاب والسيطرة الأبدية على مقدرات الأمة والمنطقة الاقتصادية والجغرافية والثقافية والروحية بفصل جزأيها الشرقي والغربي الى الأبد، وبتفتيتها الى كيانات متحاربة.
 والوجه الثاني من المخطط الاستعماري هو تغلغل عقدة العقل الاستعماري المتفوق الغربي الذي يرى الآخر مأمورا أو منبوذا أو مسخّرا نتيجة ارتباط هذه العقلية ببُعدها الاقتصادي التوسعي (تحولت "شركة الهند الشرقية المحترمة" البريطانية من مشروع تجاري تأسس عام 1600م إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع مستعمرات التاج البريطاني في المنطقة وذلك بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا.) وببُعدها العنصري الذي يستغل الاختلاف العقدي في الاقصاء عوضا عن التقبل، وهو ما ناله يهود أوروبا الذين تقرر أن يُستبعدوا من القارة وفي ذات الوقت يشرخون منطقتنا فيتحقق للغرب الاستعماري و(للحركة الصهيونية لاحقا) أن يضربوا عدة عصافير بحجر واحد.
 أما الوجه الثالث فكان تحقيق الدول الغربية لتواصل احتكار العلم والزراعة المتطورة والصناعة والتقدم والتقانة (التكنولوجيا)، فوقعت فلسطين في (بؤرة) الحدث الاستعماري وللأسباب الكثيرة التي ميزت جغرافيتها وموقعها وأساطير التناخ (التوراة وملحقاتها) التي أعيد تحريفها لتُفهم وكأنها تتحدث عن بلادنا.
يقول ياسر عرفات (ومن هنا يبدأ جذر المشكلة الفلسطينية، أن هذا يعني أن أساس المشكلة ليس خلافاً دينياً أو قومياً بين دينين أو قوميتين وليس نزاعاً على حدود بين دول متجاورة، انها قضية شعب اغتصب وطنه وشرد من أرضه لتعيش أغلبيته في المنافي والخيام).

بريطانيا والاحتلال الصهيوني
نالت المنطقة العربية من الضغط والقسوة والاستعمار ما جعل من الكيانات الناشئة بقوة وإرادة أبطال التحرر والاستقلال العرب يسعون لبناء هذه البلدان والسعي لتقدمها، ولكن من موقف ضعيف مرتبط بشكل أو بآخر بالدولة التي احتلتها أكانت بريطانيا أو فرنسا (أو إيطاليا أو إسبانيا أو البرتغال) إلا أن فلسطين كانت قضية مركبة فعل فيها العقل الغربي الاستعماري أبشع جريمة في القرن العشرين (والواحد وعشرين) وهي جريمة وُضِعَ بمقتضاها عدد من أتباع ديانة محددة من قوميات متعددة وهم اتباع الديانة اليهودية من الأوروبيين خاصة مكان سكان فلسطين العرب في آلية تهجير وطرد وإحلال برزت بذورها منذ العام 1881 م ثم في مؤتمر (بانر- كامبل) 1905 – 1907 في لندن وصولا لتحالف العقل الغربي مع الحركة الصهيونية (منذ مؤتمر بازل 1897م) فتولى الانجليز منذ احتلالهم لفلسطين وعبر ما يسمى (صك الانتداب) عام 1922 القيام بهذه المهمة اللاأخلاقية.
وقعت فلسطين في قبضة عقلية الهيمنة والاستعمارالثقافي والاقتصادي، والإحلال فسهلت الهجرة اليهودية ويسّرت سرقة الأرض، ثم عمدت لانشاء الكيان فوقعت نكبة العام 1948 التي دفعت بالشباب الفلسطيني لأن يأخذ بزمام المبادرة ضمن فهم عميق لجذور المشكلة ،وفي تطور وعي استغرق زمنا طويلا ليحدد من خلاله حجم القوى والتدافع الدولي ، ثم ليرى حجم قوته وامتداداتها فيرى بوضوح أين يقف من كل ذلك، ففلسطين قد سقطت بين أيدي إحتلالين اجنبيين انجليزي وصهيوني، ثم ترك الأمر كله للقاعدة المتقدمة للغرب الذي ورث سطوته وهيمنته الولايات المتحدة الامريكية.
قال الخالد فينا الراحل ياسر عرفات من على منصة الامم المتحدة في نيويورك عام 1974: (ترجع جذور المشكلة الفلسطينية إلى أواخر القرن التاسع عشر أو بكلمات أُخرى إلى ذلك العهد الذي كان يسمى عصر الاستعمار والاستيطان وبداية انتقال إلى عصر الإمبريالية حيث بدأ التخطيط الصهيوني الاستعماري لغزو أرض فلسطين بمهاجرين من يهود أوُروبا كما كان الحال بالنسبة للغزو الاستيطاني لإفريقيا. في تلك الحقبة التي توطدت فيها سطوة عتاة الاستعمار القادمين من  الغرب إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للاستيطان وإقامة المستعمرات وممارسة أشد أشكال الاستغلال والاضطهاد والنهب لشعوب القارات الثلاث. إنها الحقبة التي ما زلنا نشهد آثارها العنصرية البشعة في الجنوب الإفريقي وكذلك في فلسطين .
وكما استخدم الاستعمار والمستوطنون أفكار ((التمدن والتحضر)) لتبرير الغزو والنهب والعدوان في إفريقيا وغيرها. كذلك استخدمت هذه الذرائع لغزو فلسطين بموجات المهاجرين الصهاينة. وكما استخدم الاستعمار والمستوطنون الدين واللون والعرق واللغة لتمرير عملية استغلال الشعوب وإخضاعها بالتمييز والتفرقة والإرهاب في إفريقيا، كذلك استخدمت هذه الأساليب لاغتصاب الوطن الفلسطيني واضطهاد شعبه ومن ثم تشريده.
وكما استخدم الاستعمار، وقتئذ، المحرومين والفقراء والمستغلين كوقود لنار عدوانه، ومرتكزات الاستيطان، كذلك استخدم الاستعمار العالمي والقادة الصهاينة اليهود المحرومين والمضطهدين في أُوروبا كوقود للعدوان ومرتكزات للاستيطان والتمييز العنصري .
إن الإيديولوجية الصهيونية التي استخدمت ضد شعبنا لاستيطان فلسطين بالغزاة الوافدين من الغرب استخدمت في الوقت ذاته لاقتلاع اليهود من جذورهم في أوطانهم المختلفة ولتغريبهم عن الأمم.
إنها أيديولوجيا استعمارية استيطانية عنصرية تمييزية رجعية تلتقي مع اللا سامية في منطلقاتها، بل هي الوجه الآخر للعملة نفسها. فعندما نقول أن تابعي دين معين هو اليهود، أياً كان وطنهم، لا ينتسبون إلى ذلك الوطن ولا يمكن أن يعيشوا كمواطنين متساوين مع بقية المواطنين من الطوائف الأخرى، فإن ذلك اللقاء مباشر مع دعاة اللاسامية، وعندما يقولون أن الحل الوحيد لمشكلتهم هو أن ينفصلوا عن الأمم والمجتمعات التي هم جزء منها عبر تاريخ طويل، ثم يهاجرون ليستوطنوا أرض شعب آخر ويحلوا محله بالقوة والإرهاب يأخذون من غيرهم الموقف نفسه الذي أخذه دعاة اللاسامية منهم).

سقوط جغرافيا فلسطين وجدل الحل
في ظل جدل الصراع وأصوله وكيفية مواجهة تحديات التشظي والتشرذم للأمة في بلدانها ومقدرتها وحضارتها وثقافتها برزت الافكار الكبرى الثلاثة تلتمس الحل النهائي وتصبو للإجابة على كل الأسئلة ومن هنا نما التيار القومي وبرز الاسلامي وكان للاشتراكي ظهورا ومكانة.
سقطت جغرافيا فلسطين بين أيدي الحركة الصهيونية بتسهيلات كان لا غنى عنها من (الانتداب البريطاني)، ولم يكن الشعب العربي الفلسطيني إزاء ذلك مستكينا ولا مستسلما ولا خانعا، وإنما كان ثائرا شجاعا مقداما قدم الهبّات والثورات منذ العام 1919 ثم في العشرينيات، وهبّة البراق عام 1929 (تعود اليوم القضية في حائط البراق والمسجد الأقصى المبارك ككل لتغلغل العقلية التوراتية الخرافية في المجتمع الاسرائيلي في فلسطين) فالنشاط التنظيمي للشيخ عزالدين القسام ثم ثورة 1936 – 1939 وما رافقها من أساليب نضال عدة كان للأخ العربي فيها دورا واضحا بغض النظر عن دينه أو مذهبه، ومع سقوط الجغرافيا برز العلم السياسي الجديد الذي يعلن ولادة دولة (اسرائيل) على أشلاء فلسطين الممزقة جغرافيا فكانت النكبة التي ما زالت حيّة فينا كفلسطينيين وكملايين من اللاجئين المتوزعين على أصقاع المعمورة   الذين سيكحّلون أعينهم مهما طال الزمن بكحل فلسطين وهوائها المعطّر.
في هذا الخضم من التاريخ والأفكار، وفي هذه البيئة الصعبة حيث المرواحة بين اليأس والأمل وبين الاحباط والعمل وبين السلبية وعقلية الابداع الايجابية اختطت حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح تاريخا جديدا منذ العام 1957 حيث تعالت الهمسات لتنشئ كيانا أعلن عن ذاته بقوة عام 1965.
فلسطين فقدت الجغرافيا بإنشاء الكيان الاسرائيلي، ثم طحنتها دهاليز السياسة لتنشئ فوق جسدها كيانا جديدا ، كان لابد من أن ترفضه هذه الجغرافيا (الأرض) وأهلها بأشكال عدة ليس أولها الكفاح المسلح أو حرب الشعب طويلة الأمد (النفس) وليس لآخرها المقاومة الشعبية المنتصرة اليوم والمحصنة بغضبة القدس أو هبة أو انتفاضة القدس (2015) التي لا تحتاج لكثير جهد لتعلن أن هذا الشعب لا ينسى ولا ييأس ولا تخور قواه مهما جهدت (اسرائيل) في محاولات احتلال التاريخ عبر وسائط المادة بغرس المستوطنات (المستعمرات أو المستدمرات) بين ثنايا الجسد أو شق الجسد الذي توافق الفلسطينيون أن يقيموا فيه دولتهم المستقلة دولة فلسطين على جزء صغير من أرض فلسطين.

حركة ضد الشمولية والاقصائية
إن مسيرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح لم تكن لتؤمن بهيمنة الأفكار الشمولية سواء تلك القومية الشوفينية أو الاسلاموية أو الشيوعية فخلعت كل العباءات البراقة، وقررت أن الملعب الأول لها هو أن تركّز وتكرّس وتخصّص نضالها نحو قضية واحدة فقط هي قضية وطن قضية فلسطين ومن هنا فهم الفتحويون طبيعة تميزهم الحقيقي منذ اليوم الأول والبلاغ الأول (بلاغ قوات العاصفة) ومنذ (هيكل البناء الثوري) واستطرادا في أدبيات الحركة، ومسارها النضالي الذي ارتقى درجات النضالية والثورية من درجة الثورية المثالية الى الثورية الواقعية.
رفض رواد حركة فتح فكر جماعة (الاخوان المسلمين) الحصري الاقصائي الذي يقدس الفكرة وحامليها معا كما يقدّس الجماعة على حساب الأمة، رفض فكرهم السياسي النظري غير العملي، فكرهم الذي يجمد الصراع لدواعي ادعاء المظلومية والسجن وعدم توفر الظروف، فخرج عدد ممن انتموا للجماعة -في غزة خاصة- على قاعدة أن فلسطين تجمعنا، لينهضوا من أجل فلسطين لا من أجل فكر الاخوان المسلمين (خليل الوزير وأبويوسف النجار وصلاح خلف...)، وتلاقوا مع زملائهم الذين لم ينتموا لأي حزب أبدا الا حزب فلسطين كما هو شأن ياسر عرفات ود.عادل عبدالكريم ومحمود عباس وهاني الحسن، وليلتقوا مع أولئك ممن خرجوا من حزب البعث العربي الاشتراكي (فاروق القدومي كمثال)، وأولئك الذين طلّقوا الشيوعية والفكر الماركسي-اللينيني الحزبي (ماجد ابوشرار...) والذين تركوا حزب التحرير (الاسلامي) (مثل خالد الحسن) وغيرهم، فكان هذا اللقاء الجامع الذي خلع الأردية الحزبية الضيقة لقاء بين الأنوية المتعددة في غزة والضفة والخليج العربي وألمانيا والنمسا (بدأت التباشير بعد العام 1948 وصولا للنشأة عام 1957 ثم الانطلاقة عام 1965 والانطلاقة الثانية عام 1968م)، ومثّل هذا اللقاء أيضا التقاء أفكار سياسية متعددة اتفقت على أولوية فلسطين، واتفقت على ضرورة اشعال جمرة النضال، واتفقت على تطليق الاحزاب الشمولية التي تهمش فلسطين، وتتلهى بأفكار إقصائية للآخر، أفكار شمولية أفكار لا ديمقراطية أفكار لا ترى بنفسها الا النهج الاوحد التي قتلتنا سابقا وعادت لتدمرنا اليوم، فكانت حركة فتح الحاضنة للكل الفلسطيني بفئاته وتنوعاته، ومازالت.
يقول محمود عباس (أبومازن) ردا على سؤال حول الوحدة والتنوع داخل حركة فتح بديلا للحزبية منذ البدايات (لتبقى الأفكار كما هي، لكنه ممنوع الارتباط بأي حزب، فقط في الحركة، فكان التنظيم يضم كل الاتجاهات تقريبا، كان هناك إخوان وبعثيون، قوميون عرب، وكان الكثير من الشباب في الحركة قد دخلوا حزب البعث، ولم يقتنعوا، وكذلك حركة القوميين العرب، والإخوان المسلمين، وتركوا، ووجدوا في حركة فتح ضالتهم...)
لقد ميزت حركة فتح بوضوح بين حقيقة الفهم، وصدق التحليل المشفوع بحقائق الجغرافيا والتاريخ والقانون والسياسة، ولكنه المرتبط بالرؤية الاستراتيجية التي تفهم جيدا صراع القوى والمعسكرات وطبيعة تقاطع المصالح، فرأت أن المحرك في القضايا العالمية لم يكن هو القيم والأخلاق والعدالة، وإنما هذا الكم الهائل من التوحش اللأخلاقي الاستعماري سواء في الفكر الغربي أو الفكر الصهيوني الاحلالي الذي بدأ استعماريا (قوميا) لينتهي اليوم (عنصريا) (توراتيا) دينيا خرافيا.

مراحل وغيمات عرفات
إن ياسر عرفات الذي أجهد نفسه طوال حياته وهو يبحث عن الغيمات الماطرة، ووجد بعضا منها فحقق انتصارات هنا وهناك وأرادها تراكمية، وصدّر عبقرية الحث هذه لمضمون فعل حركة فتح التي آمنت بالمبادرة والمبادأة والإنجاز فلم تقف خلف المصداح "الميكرفون" تنشر وتصرخ فقط، وإنما جعلت من (الحركة) فعلا ايجابيا، فحيث تكون المقدرة على تحقيق انجاز (أكان وطنيا شعبيا ، أو عسكريا ، أو قانونيا، أو سياسيا... ) كانت لا تتوانى عن خوض غمار الحرب لتحقيقه وهذا ما كان فكانت الانطلاقة عام 1965 ، وكانت الحرب الشعبية طويلة الأمد والكفاح المسلح بإشكاله المتعددة (1965 – 1974) وكان العمل السياسي يحصد زرع العمل العسكري (1974 – 1987)  ثم كانت الإرادة الشعبية الجماهيرية تعبر بقوة عن حضورها ودورها المباشر في أرض الوطن عبر انتفاضة الحجارة التي كان فيها خليل الوزير (ابو جهاد) أول الرصاص أول الحجارة مع شبيبة الفتح وفلسطين في الوطن (1987 – 1993)، وبالانتقال لعناق البناء والتكريس للوطن من نافذة اتفاقيات المرحلة الانتقالية (1994 – 1999م) اقتنصت حركة فتح غيمة ماطرة فأعادت مئات الآلاف من المناضلين للوطن وكرست آليات التشبث بالأرض، ورسخت مفهوم معول البناء ومنجل الحصاد وإرادة الثائر في بناء مداميك الدولة الفلسطينية القادمة، فماذا حققنا؟.
بلا شك أن النجاحات السياسية كانت ذات طبيعة تراكمية في النضال الفلسطيني وفي جهود حركة فتح المضنية منذ اعلان الدولة عام 1988 في العاصمة الجزائر على وقع انتفاضة الحجارة، ثم انتفاضة الأقصى (2000-2004م) وصولا الى إعلان العالم اعترافا أمميا بفلسطين دولة (غير عضو) في الأمم المتحدة  (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 هو قرار صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة  في 29 نوفمبر 2012، وهو تاريخ اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. قدم الاقتراح ممثل فلسطين في الأمم المتحدة. التصويت كان لمنح فلسطين صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة. في الأساس، يرقي القرار مرتبة فلسطين من كيان غير عضو إلى دولة غير عضو. مع رفض الحكومة الإسرائيلية القرار، إلا أن رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت عبر عن تأييده له. أيد القرار 138 دولة، وعارضته 9 دول، وامتنع عن التصويت 41، وتغيبت خمس). ثم النجاحات التي جعلت من مطاردة الكيان الاسرائيلي في المؤسسات الدولية هدفا لنا وهاجسا للإسرائيليين وتكاتفت هذه النجاحات (أو الانتصارات) الهامة مع تواصل الفعل الميداني اليومي من خلال المقاومة الشعبية السلمية المتواصلة منذ العام 2005م.

بندقية ومفتاح ومطّرة
على الدرب الطويل سار رجالات حركة فتح، كانوا يحملون في جعبتهم بندقية ومفتاحاً و مطرة (زمزمية)، في الأداة الأولى أي البندقية فتحوا الطريق نحو بعث القضية من النسيان ، فبدون الكفاح المسلح والحرب الشعبية طويلة الأمد ما كان للفتح أن يكون لاسيما والنسيان والتجاهل والانكسار كان يرخي بذيوله على سماء الأمة العربية والاسلامية خاصة فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
وحمل الفدائي مفتاح العودة في جيبه وما زال يحمله ولن يتخلى عنه لأن العودة ومهما طالت الأيام والسنون متحققة بالأجيال، فكما أن الأرض تعلن يوميا أنها لأصحابها العرب الفلسطينيين فإن أصحابها في الشتات يتشبثون بحزب العودة، فهي العودة التي لا محيد عنها مهما كثرت العقبات وتكاثفت الأكاذيب وأحدقت بنا المؤامرات. وحمل الفدائي في جعبته مطّارة ليملأها بالماء كلما اشتد به عطش لذلك قضى الفلسطيني حياته يبحث عن الغيمات الماطرة.
وعن مفتاح العودة الذهبي يقول عضو اللجنة المركزية للحركة (آنذاك) خالد الحسن في المجلس الوطني الفلسطيني بدورته العشرين عام 1991 (أنا خالد الحسن، ابن حيفا، إذا فقدت حق العودة وبالتالي أملي بالعودة إلى حيفا، شو بدي فيكم "ما حاجتي بكم "، أنا والله عندي حيفا والقدس زي "مثل" بعض، لأن كل فلسطين مقدسة).
ومع مفتاح العودة كانت مفاتيح التحرير والنضال بكافة أشكاله مترافقة مع مفتاح الديمقراطية والتعددية الداخلية (فنحن عودنا أنفسنا منذ البداية على الديمقراطية، وعلى الحوار الهادف، فلم نرفع يوما سلاحا فلسطينيا في وجه فلسطينيين، ولم نقبل أن يسود منطق الغابة هذه الساحة الفلسطينية...)
في فلسطين لا نزرع الأشجار فقط ولا النباتات بل نزرع الفداء في قلوب الرجال وعقول الأطفال لأن الوطن والقدر متماهيان، فكما كُتب علينا أن نكون من هنا فإن الوطن لا يحيا إلا فينا ، ومهما كانت التضحيات فيه أو من أجله فهي استجابة القدر فينا لنداء الأرض.
في فلسطين لا نزرع الأرض فقط بل ونزرع النفوس والعقول والأرواح بالنداء والعمل والأمل الكبير لذلك فالثورة أوثورة بساط الريح كما كان يسميها ياسر عرفات عرفت الجدب والخصب وعرفت الانتكاسات والانتصارات، وتنقلت وتجاوزت وحرثت وفي جميع أطوارها ومراحلها كانت تبحث عن الغيمات الماطرة ، والأجوبة الشافية والسياسات الواقعية أحيانا والمجنونة حينا كل ذلك فداء لفلسطين.

أدوات النضال وحاجاتنا الملحة
ظهرت الأجوبة والغيمات الماطرة في فهم للمراحل، من النضال العسكري، فالعناق بينه وبين السياسي، إلى النضال متعدد الأوجه (الاقتصادي والإعلامي والاجتماعي مع ما سبق...)، إلى النضال الجماهيري عبر الانتفاضات والهبات (انتفاضة الحجارة عام 1987-1993 ثم هبة النفق عام 1996 ثم انتفاضة الأقصى عام 2000 ثم #غضبة_القدس أو هبتها الحالية)، والمقاومة الشعبية السلمية المتواصلة اليوم بأشكالها المتعددة التي دفع في سبيلها العديد من الشهداء أرواحهم وكان فيهم البطل الشهيد زياد أبوعين عضو المجلس الثوري لحركة فتح علما بارزا.
سارت حركة (فتح) وأصابت وأخطأت، وأفلحت وعانت كثيرا الى أن أصبحنا على أبواب العام 2016 والانطلاقة تتجاوز الأعوام الخمسين التي نحتاج فيها للحكمة ولنقد وتأمل وتفكر وتطوير وابداع، والجعبة ما زالت كما هي، ونحن بانتظار الغيث فالأرض لا يحرثها إلا أبطالها والبحث عن الأبواب المفتوحة تحتاج لأكثر بكثير من الدعاء فقط.

1-بين التخلي والتمسك، والشجاعة
إننا مطلّون على مرحلة تحتاج لكثير تفعيل لأدوات النضال لاسيما والخراب في الساحة العربية أصبح شديدا ، ما بين طعن الحِراب وتشتيت الفكر وصراع النفوذ، ولاسيما والأمم تسعى لمصالحها ونحن في أشد حالات الضيق، والنفق ما زال مظلما، وفي هذه المرحلة فإن أدوات النضال واعتصار الغيمات وامتلاك مفاتيحها يحتاج منا كفلسطينيين أكثر من أي شيء آخر لتبادلية (التخلي) و (التمسك).
إن لم نتخلى-وفي التخلي شجاعة- لا نستطيع أن نتحلى بشجاعة التمسّك، إذ علينا التخلي عن أنانيتنا السلطوية أو الحزبية كتنظيمات وكأفكار (مكتفية بذاتها) وكآراء ومواقف متباعدة، وأن نتخلى عن أي ارتباطات خارجية هي وهمية لنا لأنها – وبالتجربة – لا تسعى إلا لمصالحها ، فلم يكن يوما للعدل والحق والضمير أن تغلب على المصالح إلا في مراحل أو حالات تاريخية محدودة، لذا فإن علينا في حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح أولا وفي الفصائل الأخرى أن (نتخلى) عن كل ذلك إن وجد فينا (لنتمسك) ويتمسك غيرنا بفكر وسجايا "الصدق والشجاعة والتناغم" مع الجماهير، فكر فلسطين فكر الوطن، فكر الأولوية لفلسطين، لا لأي فكرة وأخرى مهما بدت مقدسة أو كبيرة أو عظيمة، لأن مهمتنا التي ألقاها الله سبحانه وتعالى علينا أن نكون مرابطين في هذا البلد جميعا وليس كِسَرا وأجزاء.
يقول المفكر العربي الفتحوي خالد الحسن إن الشعب (قد اشتاق لقيادة الصدق والشجاعة والوضوح والمصارحة والتنظيم والتعبئة والتناغم مع نبض الجماهير العربية في فلسطين، تلك الجماهير التي تسامت على كل قياداتها منذ العام 1920 حتى الآن بوحدتها الوطنية وبرفضها الوقوع في مصيدة الانشقاقات الحزبية أو التنظيمية أو القيادية...)
إن الذهاب لعقلية التمسك بالجوامع الوطنية بديلا عن القواسم، والاتكال على الله، ووحدتنا هي قصبة النجاة، وهي الغيمة الماطرة ، وقد يقول قائل ان هذا الفصيل أو ذاك يرى ذاته أو فصيله (تنظيمه) أو فكره منزّها ربانيا مطلقا لا ياتيه الباطل من بين يديه أومن خلفه، وقد يرى ذلك نعم، ولكن من واجبنا -رغم علمنا هذا- أن نفتح الأبواب بل ونشرعها، ونتنازل لإخوتنا ونتقدم أكثر من خطوة باتجاههم عبر الحوار المفتوح والتقبل والتفاهم والتجاور في نفس المساحة، ففلسطين والقضية أكبر منا جميعا.

2-بناء القلعة الكبرى
   نحن في مرحلة أحوج ما نكون فيها للخطاب الواحد والصوت الواحد والهدف الواحد والذي يستدعي حين استقرار القناعة بناء قلعة، نعم بناء قلعة وطنية كبرى، ففي ظل تهدم قلعة منظمة التحرير الفلسطينية وتشقق جدرانها وجدران السلطتين سواء في رام الله أو غزة، لا بد أن نبني قلعة جديدة تستلهم تجارب تلك المتداعية وتؤسس لفكر وثقافة الديمقراطية (الشراكة) الحقيقية دون إبطاء سيتجاوزنا به الزمن.
  من هنا يقع واجب بناء البرنامج والخطة والسراطية (الإستراتيجية) الوطنية الشاملة على الكل الفلسطيني، وفي إطار منظمة التحرير الفلسطينية ذات الأسس الديمقراطية المدنية الجديدة، بلا إسفافات الأفواه الكبيرة عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي الممتلئة بالقبح والقذارة من تخوين وتشويه وتكفير.
إن البيت الوطني مخترق ومثقل بالثقوب فلا يتحصل على قدرة تجميع الماء، وان استمرت الثقوب بلا إصلاح لا نستطيع ان نحصر الماء فنرتوي أونتقدم.

3-بعيدا عن القمة و"العضو المحترم"
أما ثالثا فكما نحتاج للتخلي كمقدمة للتمسك، وكما نحتاج لبناء قلعة وطنية حصينة، فإننا على الصعيد الحركي الفتحوي الداخلي بلا شك أخذتنا الأحداث اليومية بعيدا عن (طُهر) الفكرة، وبعيدا عن (ثقافة) الانتماء والالتزام والانضباط، فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، لتصبح محطة انتماء البعض فينا ذات طابع انتقائي أو ذرائعي أو مصلحي أو شخصاني، وهو ما يتعارض مع تعريف الانتماء الفتحوي أنه لفلسطين وترابها وسمائها وحجارتها وزيتونها وقضيتها....
ليس الانتماء قطعا لهذا أو ذاك، وكيف للانتماء والثقافة الوطنية أن تنمو والجسد (التنظيمي) منهك والجسد التنظيمي يعاني من الأمراض، والنفوس مليئة بالثقوب والسواد واليأس والإحباط، والهياكل تتآكل فلا أبواب مفتوحة ولا آذان تسمع ولا قلوب لذكر الله سبحانه وتعالى، ولهدف فلسطين تخشع! وكيف لتعاضد وتكاتف وتساند يُبني ومسار الحراك داخل التنظيم السياسي يتكالب نحو القمة وليس نحو (العضو) من حيث هو الطاقة الجبارة والقيمة والاحترام  بفكره وأدائه وفعله بغض النظر عن مكان وجوده في السلم التنظيمي.
يقول خليل الوزير (أبوجهاد) أول الرصاص أول الحجارة عما أسماها القواعد الذهبية الأربع لحركة فتح وهي قواعد العمل الخاصة بنا "كأعضاء في الحركة"، أنها تتمثل: بتبني (الوحدة الوطنية مع اتساع الصدر ورحابة الأفق، والثانية هي توظيف كل الطاقات لتحقيق حرب الشعب طويلة الأمد ما نحتاج معها إلى الصبر والنفس الطويل، والقاعدة الثالثة: هي بالعمل على تفتيت جبهة الأعداء، والقاعدة الرابعة: هي استقلالية قرارنا التي لا تنبع من إقليمية ضيقة مغلقة، بل تنبع من منطلقاتنا ذات الأبعاد القومية استنادا إلى أن صاحب الجرح هو الأكثر إحساسا بالألم والأكثر إحساسا بحجم المعاناة، ولذا لا بد أن يكون هو الأكثر تفاعلا واندفاعا لمعالجة جرحه)
إن إعلاء قيمة (العضو) أي الشخص المنضوي تحت لواء التنظيم السياسي بقناعة وإيمان، يجب أن تكون أساس الثقافة التنظيمية الناهضة، فكما يُطالب هو بالانضباط للقوانين والأوامر والتوجيهات فمن حقه ألا يُدار له الظهر، وأن يُعطى الدور في مساحته وإطاره وأن يتم التواصل الدوري معه.
 ما يعنى أن لا حياة تنظيمية داخلية متواصلة بدون خُماسية (1-الاجتماع الدوري لكل إطار ببنوده الكاملة ، 2-تقديم التقارير عن الأعمال والتكليفات ، 3- امتلاك "التكليف  والمهمة أو الدور" الذي يمارسه العضو يوميا، وممارسته التثقيف والبناء الذي لا غنى عنه، 4-عقد اللقاءات الدورية وعقد المؤتمرات بمواعيدها ، 5-تحقيق التواصل الاجتماعي الداخلي، والجماهيري المبني على الحب والتفهم والتقبل والتجاور).
4-استمطار الأمة العربية
نعم نحن نلتفت للداخل فينا كحركة فتح وفينا كمنظمة تحرير، وفينا كفكرة وثقافة مشاركة ودور جامعة متجددة، ما نراه أولوية عظمى في ظل الخراب الذي يضرب في ظهرنا في عمق أمتنا العربية، أو انكفائها وابتعادها (الذي نسعى لأن يكون مؤقتا) عن قضية الأمة الأولى قضية فلسطين .
 وفي (سعينا) لاستمطار غيمات الأمة العربية لاشك أن قنواتنا يجب أن تظل مفتوحة على ذات القاعدة التي ألِفناها فنحن والأمة جسد واحد مهما أثقلته الجراح هذه الأيام. (هل نتذكر شعارنا الخالد الذي طالما أكد عليه القائد صلاح خلف وخالد الحسن أننا قاطرة لا تسير إلا ضمن قطار الأمة العربية، وأننا رأس الرمح فيها)...
ومن هنا في النقطة الرابعة المطلوبة حاليا تقول أن: لنا دور مشترك يجب أن نمارسه في تعظيم قيم التوافق والتعاضد والتقارب بين الأمة ومع الأمة العربية حيث يجمعنا التاريخ والحضارة والمكان واللغة العظيمة والثقافة والقضايا المشتركة، كما تجمعنا الحضارة والإسلام العظيم مع عدد من دول الإقليم المجاورة (مع ايران وتركيا)، ولنا دور يجب أن نمارسه في تعظيم قيم التوافق أيضا مع الدول الاسلامية، بل ومع أحرار العالم حيث قيم العالمية الحضارية.
في حديثنا في الإطار الواسع المساحة أي الاقليم أو الأمة العربية وجب علينا أمران الأول: الاستمرار بطرق الخزان العربي سواء الرسمي أو الشعبي، فما زال هذا الخزّان يضم الكنوز البشرية في الاعلام والصحافة والفكر والاقتصاد والثقافة الجامعة والتقانة وغيرها من المجالات التي لا غنى عنها لنا كأمة، وفي فلسطين القضية والدولة والمستقبل.
 وفي الامر الثاني يجب تحقيق مساهمتنا في دعم قيام (كيان) الأمة الناهضة، ونحو مزيد من التقارب والتآلف وصولا للوحدة بأي شكل مقبول من شعوب الأمة، وهل أوروبا متعددة القوميات أفضل منا لتشكل (الاتحاد الاوروبي)؟ ونحن نتفرج على أعتاب فكرة خيالية سلطوية استبدادية، ليست نهضوية أصبحت بائدة اسمها (أمة عربية واحدة...)، أو اسمها المخادع (الخلافة الاسلامية)، وهي مهما كان مسمّاها ما يجب أن ننهض بها ثقافيا وفكريا كحركة فتح لدعمها في نظرية أقرب ما تكون لمفهوم "أمة ديمقراطية  حضارية واحدة منفتحة"، وإن تعددت الأنظمة السياسية، يجمعها المصلحة الواحدة، لتتبوأ مكانا مرموقا بين الأمم بالتحرر و بالفكر والثقافة والصناعة والتقانة والوحدة الاقتصادية واحترام حقوق الإنسان والتعددية والمدنية...الخ، بعيدا عن معازل (غيتوات) الجهالة والتطرف والانعزال العنصري والإرهاب الذي عصف بأمتنا.
لنا أن تحلّق الأمة معنا، فلا تضيع فلسطين في ظل البُهتان الصهيوني الذي يحاول أن يجعل من الخطر الاقليمي (ايران تحديدا) هو الخطر الأوحد ، في محاولة فاشلة لاستقطاب الأمة ،ولنا أن نزرع مع الأمة بذور الوحدة الناهضة أيضا، وننتظر الإثمار، فالغيمات فينا رابية.

5-"الفهم" والصراعات
في النقطة الخامسة بعد أن تعرضنا للوحدة الداخلية بشقيها الفتحوي والوطني العام، وبناء السراطية (الاستراتيجية) والبرنامج الموحد ، ووحدة الأمة في الإطار الحضاري، فإن فهم الصراع بأبعاده الذي قد لا ينتبه له الكثيرون يحتاج جهدا مضاعفا، وهذه الأيام خاصة في ظل صراعات جديدة تحيط بنا منها صراع الاسلامويين وصراعات التطرف وصراع الإرهاب، وصراع (الاسلاموفوبيا) بالغرب، وصراع الأصالة وصراع الأديان والطوائف، وصراع التقسيم الجديد للمنطقة العربية، وصراع العلمانية وأبوابها المتعددة، وصراعات الحداثة والعولمة والبيئة، ناهيك عن صراع الرواية التوراتية الرائجة هذه الأيام في ظل خرافية وأسطورية فكر اليمين الإسرائيلي الصاعد، وكثير من مرويات التراث العربي والإسلامي التي استجابت لهذه الأساطير التوراتية، ولم تعد تطيق تقبل الدلائل والبراهين التي تسقطها وتصرعها.
إن صراعنا الثقافي الفكري التاريخي النضالي سواء في المنطقة، أو فيما يتعلق بفلسطين هو مما يجب أن نقرنه مع ما استجد من صراعات نخوضها مثل صراع مقاطعة الكيان الاسرائيلي العنصري في كل المحافل وفي الوطن، والصراع القانوني الذي ذهبنا إليه حديثا مترافقا مع النجاحات السياسية، ودعما لاستراتيجية تحطيم أسطورة (اسرائيل) كدولة (ديمقراطية) ما هي في الحقيقة إلا عنصرية تبتغي (اليهودية) الإقصائية، الأكثر بغضا مما كان في جنوب افريقيا.
إننا بحاجة كفلسطينيين وكحركة فتح وكتنظيمات عامة للفهم المشترك أولا، وفي إطار تحقيق هذا الفهم لامناص من استبعاد أولئك المعوقين للوصول لهذا (الفهم المشترك) وهذا الفهم إن لم يعد لجذره وهو (فلسطين) ولجذره الحضاري في صميم حضارة أمتنا العربية الاسلامية والمسيحية الشرقية نكون في حالة (تيه) كتلك التي حصلت لقبيلة بني إسرائيل العربية اليمنية المنقرضة هناك في الجغرافيا البعيدة.
 إن المأساة في فلسطين اليوم ذات طابع مركب ما بين اختلالات الجغرافيا وصراخ الأرض المغروس فيها خنجر الاستيطان والاحتلال، وتكرار مآسي اللجوء، وما بين تزويرات السياسيين الاسرائيليين وشحذ سكاكينهم الملونة لقطع رقبة نضالنا، بل وتمزيق تاريخنا وحضارتنا، وما يساعدهم في عملية الذبح الإرهابية هذه هو عدم القدرة على "الفهم" وعدم القدرة على التوافق على التحليل لدينا نحن كتنظيمات فلسطينية سياسية أساسا، وعدم القدرة لدى فئة كبيرة على تقبل الآخر والتعددية والديمقراطية والشراكة، وما يساعد العدو في مذبحته ضدنا هو تفككنا، و لهوْ الأمة وانصرافها إلى مواضيع تأخذ أنظمتها ومنظماتها بعيدا وتجعل من انخراطهم في محاور متقابلة-متقاتلة أساس الصراع والفرز الذي يدمر الأمة من حيث تدمير فكرة الدول الوطنية، ومن حيث هز الاستقرار، ومن حيث تلطيخ الثقافة الحضارية المتعددة .
 إن حاجتنا للفهم المشترك في التوافق على وحدة فكرتنا الجامعة يعني أول ما يعنيه قطع الخيوط مع ما يظنه البعض "أكبر" من "فلسطين الفكرة الجامعة"، وهو ذاته الخيط "الأكبر" الذي التف نحو رقابنا فجمد نضالنا كفلسطينيين في فترة تكاثف غيمات الانطلاقة ما قبل عام 1965، وها هو يعود اليوم ليلتف حول رقبة القضية بوجه جديد يجعل من فلسطين قضية ثانوية، أو إلحاقية أو قابلة للانتظار لا يرفع من أجلها إلا الشعارات الفضائية، ومن هنا فواجب حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح داخلي وخارجي، وثقافي كما هو ميداني صادق وشجاع وصبور بلا كلل.
وإنا لمنتصرون بإذن الله، وإنها لثورة حتى النصر.