التساؤلات الكبيرة تحوم حول دور التنظيمات الفلسطينية في غضبة القدس أو هبتها، أو "انتفاضة القدس" كما تسابقت بعض الفصائل وتسارعت لتطلق عليها هذه الصفة أي صفة "انتفاضة"، وكأن الصفة تُغني عن الفعل شيئا، ومع هذه التساؤلات عن دور التنظيمات السياسية الفلسطينية يبرز العجب و الاستغراب بل والاستهجان لحدود الدور الذي تحصّن التيار العبثي السلطاني في كل تنظيم وراءه ووقف عنده دون أن يقدم خطوة واحدة حقيقية للملعب الآخر، وكأننا نريد وساطات جديدة لنلعب معا في ملعب وطني متفق عليه فلا نخسر النقاط كما حصل بين منتخبي فلسطين والسعودية مؤخرا.
عند الحديث عن التنظيمات السياسية الفلسطينية يبرز للذهن المكونات الثلاثة أو الأربعة الرئيسة وهي التنظيمات الوطنية والتنظيمات اليسارية والتنظيمات الاسلاموية، أو بتفصيل أفضل نحدد حركة فتح وفي المقابل التنظيمات الفلسطينية المنخرطة في اطار المنظمة، والأخرى غير المنخرطة مثل فصيل "حماس" و"الجهاد" ومن هنا يبدأ النقاش.

أين حركة فتح من الغضبة؟
أعلنت حركة فتح عن وجودها الميداني في ساحة المواجهة منذ اليوم الأول لانطلاق غضبة القدس أي في 02-07-2014 مع إحراق أيقونة الغضبة المقدسية الاول الفتى محمد أبو خضير من قبل المستوطنين الارهابيين بالهبّة المقدسية العارمة التي شاركت فيها كل شبيبة القدس وعلى رأسها قيادة حركة فتح هناك، وصولا للارتباط بفعاليات لجان الحراسة ومقاومة المستوطنين التي شكلتها أقاليم حركة فتح في كل الضفة إثر كثير الاعتداءات على قرى وبلدات فلسطين (خاصة في نابلس) من قبل عصابات المستوطنين الارهابيين في قُصرة-نابلس ودوما تحديدا، وفي المعصرة  في بيت لحم و في أطراف رام الله، و ايضا في يطا والخليل.
وجاء الاعتداء على آل الدوابشة في 30-08-2015 ليشكل محطة أساسية في إلهاب الغضبة أو الهبة كما هو الحال مع قتل إسراء الهشلمون بالخليل في شهر 9/2015 وكلها أحداث مقدمات ومشعلات واضحة كانت مع استشهاد القائد زياد ابو عين في أواخر العام 2014 وكذلك الأمر مع بطولات التصدي الشعبي بيدين عاريتين للمستوطنين، كلها مشعلات شكّلت خميرة نضالية في قيادات حركة فتح الميدانية بلا شك و التي تعانقت بوضوح مع مسيرة المقاومة الشعبية الممتدة (2005-2015) لتبرز الشكل الجديد المتنامي للغضبة.
قد لا ينظر الكثيرون للأرض و تواصل النضال فيها الذي لم يتوقف -رغم مطالباتنا الكثيرة بتصعيده وشموليته- وعليه يحرفون انظارهم فقط ليروا الدم يتقاطر سواء بأيدينا أو أيدي الاسرائيليين فيهللّون للمجد والنصر، ويهملون انجازات المقاومة الشعبية المتواصلة التي عدّلت من شكل الجدار العنصري وأعادت مئات الدونمات من أراضينا، ولحملات المقاطعة الناجحة ولانجازات عزل الاسرائيلي، ما يمثل انجازات وانتصاراتنا الحقيقية.
يقع التركيز الاعلامي والمزاجي الشعبي على البطولات الفردية- على أهميتها – مع إهمال الإنجازات بل و الانتصارات الشعبية على الأرض وكأننا نُساق كالخراف وِفق إرادة الاعلام المشبوه والمحرض والمحرّف لنظن أننا أصبحنا  أبطال (سوبرمان) -ونحن عراة من أي سلاح- ولسنا سوى الضحايا للعدوان الصهيوني في حقيقة الأمر.
إن مسيرة حركة فتح التي يقف منها العديد من العميان والمخرّصين وقفة عداء لا لشيء، وإنما لأنها تفاجئهم دوما بالنهوض فلا يستطيعون أن يصِموها بالاستسلام أو الذلة أو الخيانة مهما لاكت افواههم مثل هذه المصطلحات الجرثومية.
 مسيرة حركة فتح برجالها على الأرض وامتلاكها الميدان تفاجئ ركاب الفضائيات وتجارها الذين لا يجدون إلا مثل هذا الحصان الهزيل ليركبوه ويرجمون حركة فتح من على صهوته تحت اتهامات الكفر أو الخيانة أو "التخابر" أو غيرها الكثير من قاموس الجهل و الشتيمة والبذاءة التي لا تدلل الا على مقدار الحقد أو الغضب أوالحسد أو الغيظ الذي لا يمت للوطنية او الإسلام أو للوعي السياسي بصلة.
إن حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح في غضبة القدس هذه وبانطلاقتها منذ عام ونصف تقريبا، وهي تراكم سياسيا وإعلاميا وميدانيا وقانونيا، ولا يمكن إلا للأعمى أعمى البصر والبصيرة، أو قصير النظر أو الحاقد الأبدي أن يُنكر الانجازات الميدانية أو السياسية فلا يجد أمامه الا أن يكرر مقولات جاهزة اكتسبت شعبيتها عبر التشويه والتكرار والكذب من مثل: حل السلطة القمعية، و"سلطة اوسلو" غمزا لها، ومثل التنسيق الامني أو كما سماه بعض الأشقياء "التخابر" في غمز للعمالة المباشرة.
ان أسلوب الطعن والاستخفاف والاتهام يأتي لضعف في ذات الأعمى أو لانحسار خياراته، وسوء تقديره لقوة التعبئة الوطنية في الفلسطيني عامة، وفي حركة فتح و التي تضرب دوما في صميم أوهامهم ما انزعجوا كثيرا لرؤيته من أبطال الفتح بالميدان في غضبة أو "هبة القدس الغاضبة" كما أسماها الرئيس ابو مازن التي صرحت بوجودهم الفاعل منذ اليوم الأول ومنذ اشتدادها مساحة أي منذ 1 -10-2015.
ان قيادات حركة فتح الميدانية بلا مواربة هي في المقدمة ما لحقها به من قيادات حركة فتح السياسية طواعية أو انسياقا، فلا تلعبوا هذه اللعبة فالجمهور الفلسطيني والعربي وأبناء الحركة ليسوا سذجا أبدا.

أين "حماس" من غضبة القدس؟
 إن النظر لدور تنظيم "حماس" في هبة القدس الغاضبة يحتاج لقراءة في خطاب ومواقف قياداتها وفعلها على الأرض لنرى أين تتموضع في حقيقة الأمر، واذا نظرنا لدور "حماس" في غضبة القدس نرى أن خطابها وفعلها قد تنقل بين مراحل ثلاث هي (ودعنا نحدد الاستخدام السيئ والمشبوه للخطاب فقط من التيار السلطاني العبثي المناهض للمصالحة):
بدأنا المسيرة مع خطاب النبذ والاقصاء للآخر المبني على الشتم والتشويه و التخوين والاتهام العقدي-السياسي والذي استمر منذ الانقلاب في غزة عام 2007 حتى شهر مضى، إذ غرقت فضائيات هؤلاء وكثير من مواقعهم بسيل غير منقطع من الاتهامات والبذاءات والمكائد الاعلامية والتحريضات المجانية في تساوق مع تحريضات اليمين الاسرائيلي، وهي التي لم تنته، وكأن مثل هذه الحرب البذيئة تجر للمصالحة أو تفصّل ثوبا وطنيا أو تعطي صورة مفرحة عن فلسطين، وهي في الحقيقة تطعن في الكل الوطني ما لم ينتبه له إلا القلة فقط من تيار هذا الصوت العالي والمتعالي.
وفي المرحلة الثانية برز خطاب الفصل أي أننا "منهجان ومساران كالخطين المتوازيين لا يلتقيان" وهو خطاب المسلمين مقابل الكفار! وأهل البندقية مقابل أهل غصن الزيتون! وهو خطاب وممارسة على الأرض وضعت المسافة الشاسعة بعيدا عن حركة فتح وكأنها تمثل لهؤلاء جرثومة أو عاهة أو مرض يتجنبونه، وأدت لإنشاء توجهين مختلفين فكريا وجغرافيا يؤسس للقطيعة والانفصال النهائي، وتأبيد الانقلاب الذي أحدث الشرخ والانقسام، إنه ببساطة  خطاب البُغض والكراهية المرتبط بعقلية الفسطاطين-المعسكرين، خطاب الحق المطلق الذي مازال يعشعش في عقول البعض.  
 ثم جاءنا على محفّة الأموات وفي "تابوت العهد" خطاب الخداع والإيهام والتلاعب من البعض (مع اقرارنا بحسن نوايا الكثيرين) والذي مارس أي هذا التيار السلطاني العبثي التوجهات التالية:
1- استبدال الرموز العامة تمويها على الحقيقة الكئيبة على الأرض، من مثل استخدام الحطّة (حطة ثوار العام 1936 ثم حطة فلسطين لاحقا وياسر عرفات) و العلم رباعي الألوان علم فلسطين، وهما ما كانتا من رموز المهانة والخيانة عند أصحاب هذا التيار قبل أيام في عملية جديدة هي مسمومة ايهامية بأن هناك تغييراً قد حدث، بينما الأرض مازالت ضد من يلبسون الحطّة ويرفعون علم فلسطين، ومازالت هذه الفئة العبثية المخرّصة تمسك بالسلطة بيديها وأسنانها، أنصدق القنوات أم الأرض؟
2- وتسابق أمثال هؤلاء لإطلاق الإسم أي (انتفاضة) على الهبة الجماهيرية الغاضبة (والاسم مهما كان لا يعني لديهم إلا التمايز فقط بينما الحدث هو جزء من استمرار المقاومة الفلسطينية)، وكأن الاسم يمثل تعويضا عن المشاركة الميدانية الفعلية سواء في غزة أو الضفة، مع ما يعني ذلك من وجوب الانصياع لأوامر الوحدة الوطنية ومستلزماتها الباهظة على معسكر السلطان=السلطة، وكأن الفم الملآن بالدعاء يُغني عن القطران.
3- برزت الدعوات الصادحة بالحث على العسكرة والتهلكة في الضفة من فلسطين، و النأي عن اطلاق ولو رصاصة واحدة من غزة، وكأننا نعيش في جزيرتين منعزلتين أو قارتين مختلفتين (نحن مع تجنيب غزة حرب جديدة قطعا، وضد إلقاء الضفة في التهلكة أيضا).
4- المراوحة ما بين اتهام السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة فتح  كما درج الخطاب الأعمى من سنوات، وما بين الفصل بينهما في محاولة ايهامية للاستقطاب أو الخداع، أو في الدعوات المحمومة لدفع  قوات الأمن الفلسطيني للعسكرة ومواجهة المحتل بالبنادق، مقابل تسليمهم مفاتيح الجنة والعفو عنهم (قيلت جهرا وبفظاظة!)، بدفعهم لمعركة غير متكافئة ومحسومة سلفا، وكأن الدماء العزيزة والغزيرة التي سالت في حروب غزة الثلاث يجب أن يسيل مثلها وبلا ثمن في الضفة أيضا؟ وكأن لسان حالهم يقول: ولم لا! ألسنا في جزيرتين مختلفتين كليا، فليذهبوا الى الجحيم.
5- ناهيك عن التحريض لكوادر حركة فتح على مَن ؟ أعلى العدو المشترك وعلى التناقض الرئيس (مفروض أنهم يعتبرونه العدو الرئيس لا الثانوي) بل ضد قيادة الحركة، وتصوير الأمر في الوعي كأن هناك انفصال واقع بين القيادة "المستسلمة"، والميدان الفتحوي الملتهب (كان هؤلاء الفتحويون منذ أيام خلت يُنعتون من قبل التيار العبثي السلطاني في غزة بأبشع النعوت) .
6- امتلأ الخطاب مؤخرا بمحطات التساؤل السلبي عن دور ووجود حركة فتح في الغضبة؟ أو الانتفاضة والدعوة لها للانخراط بها؟ بإشارة لا تخفى على أحد تعني أنها غير موجودة! رغم أنها أحد اكبر صُناعها على الأقل في شبابها الأبطال ميدانيا من خلال القيادات الثابتة، ومن خلال البيئة الثورية المساندة وعبر الخطاب المقاوم من قيادة حركة فتح السياسية وعلى رأسها أبومازن، ورغم استمرار المقاومة الشعبية السلمية منذ سنوات وتحت أنظار السلطة الوطنية ورعايتها، وصولا للغضبة.
7- الخطاب العرمرمي الذي يخطب ودّ الجمهور الفلسطيني فاسد الطوية، لأنه يحاكي الهواء لا التراب، فما المعنى إن لم يقدم سلاحا أو عونا ميدانيا في الضفة وغزة، وما المعنى كواقع مادي أن يمنع -سنويا وهذا العام أيضا- ظهور ذكر أو شبح أو إقامة مهرجان بذكرى قائد الثورة والمقاومة ورمز فلسطين وكل الفلسطينيين والأحرار بالعالم ياسر عرفات في ظل سلطة "حماس" بغزة؟
8- التنقل مؤخر أيضا ما بين (شعبية) وسلمية الانتفاضة ما كان شكل الخطاب أو في محاولة لتضمينه دون وضوح الى التهديد بعسكرتها عبر رفع اسم الكتائب (س) او كتائب (ص) في المقدمة دون اي فعل حقيقي.
إن دور التيار السلطوي العبثي في حركة "حماس" أو غيرها في هذه الانتفاضة او الغضبة تتنازعه المعسكرات في داخلها كما المحاور الاقليمية التي تجذبه بعيدا في اتجاهات غير وطنية تجعل يديها لا تتلطخ ب"وسخ" الانتفاضة عمليا لأنها إن فعلت ستعصف بها في غزة لا محالة، وهي تهب على الناس برياح الدعوات للإذكاء اعلاميا لأنها تريد المغانم ولا تريد المغارم، فثبات الحكم الأبدي للتيار السلطوي العبثي في غزة يمثل حقيقة رفض المصالحة بإباء، وما يتمثل واقعا بدعمها أي عمل يمهد للانقضاض على "سلطة رام الله" وكأنها مكسب عظيم! ولا يضر بمصالحها في غزة، وكأنها مكسب عظيم أيضا! أكان ذلك تحت عنوان "الشراكة" بمعنى أن ما اكتسبته بالانقلاب هو لي وأريد أن أقاسمك الباقي! وبمعنى أنني متموضع في مكاني النائي عنك في انتظار للمهدي المنتظر وقيام الخلافة العظمى فلا يهمني العقبات في الطريق ولا يهمني قيام الدولة الفلسطينية ام لا، فأنا على الحق الأبدي مهما طال الزمن.

أين الفصائل من غضبة القدس؟
إن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية -إلى جوار حركة "فتح"- تشكل وشكلت بحق الشريك المشاكس والمعارض الشرس ولكنه في كل المراحل حتى حين تفرق الدروب مؤقتا كان يثبت انتصاره للهوية النضالية وفلسطين والصيغة الجامعة.
تعددت الرؤى والأيديولوجيات في فترات المد القومي (منذ الثلاثينات في القرن 20 حتى سقوط حزب البعث) والصعود الشيوعي (حتى انهيار جدار برلين عام 1991) فخاضت فصائل اليسار والمعارضة الفلسطينية (سواء تلك القومية، أو ذات المنهج الماركسي حينها) معاركها الداخلية في نطاق الصراع الذي حمل ثلاثة معان الأول : المرتبط بالفهم الفكراني (الأيديولوجي) للصراع وبالتالي تحديد طبيعة البرنامج السياسي والنظرية، والنظر (للقيادة المتنفذة) في منظمة التحرير الفلسطينية التي مثلت بنظرها (اليمين) الفلسطيني.
 وبالمعنى الثاني: وفق امتدادات أو تحالفات أو ارتباطات أو تقاطعات هذه الفصائل مع الأحزاب المثيلة في الدول العربية أو الدول الصديقة ، بمعنى أن أكثر التنظيمات التي دانت بالولاء للفكرة القومية كان مرشدها إما في مصر لفترة من الزمن، وإما في العراق أو سوريا ارتباطا بالفكرة وبأحد القيادتين "القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي" المتناحرتين في البلدين.
وكان المعنى الثالث هو في أدوات الصراع المستخدمة والتي تراوحت ما بين أشكال خمسة ذات طبيعة ثورية كفاحية عنيفة: مثل العمليات الفدائية والاشتباكات عبر الحدود البحرية والبرية مع الكيان الصهيوني، وثانيا: خطف الطائرات وتدمير المصالح الغربية والاسرائيلية فيما عرف بالعمل الخارجي، وثالثا العمليات الصاروخية ضد المستوطنات الصهيونية من الجنوب اللبناني، وفي الشكل الرابع كانت العمليات الاستشهادية باقتحام المستوطنات وأسر الجنود والمستوطنين، والشكل الخامس كان حرب المخابرات والاغتيالات السياسية ، فتصارعت الفصائل وحركة فتح داخليا في المعاني أو النطاقات الثلاثة (الأيديولوجي – السياسي ، الامتدادات الفكرية والسياسية، أدوات النضال الأكثر جدوى).
ورغم ما شاب الصراع الداخلي من فترات حادة وخروج ودخول في الإطار الجامع أي في (م.ت.ف) والانحياز لمحور عربي هنا أو هناك، إلا أن الولاء والانتماء ظل للجميع باعتقادي لفلسطين وللإطار الجامع أي منظمة التحرير الفلسطينية التي ناضلوا لتغييرها أو تغيير توجهاتها وتغيير بعض قياداتها من داخلها، ولم يسع أحد – رغم شدة العبارات المستخدمة حينها (وباستثناء بعض حالات الانشقاق)– لتدميرها أو استبدالها أو وراثتها كما فعلت "حماس" في أكثر من محاولة فاشلة حتى الآن.
هذه الإشارة للفصائل تستدعي الاحترام والإكبار لها مهما اختلفنا معها نحن في حركة فتح، وتستدعي التفهم لوجهات النظر والسياسات المختلفة، ونضيف هنا أن الفصائل في زمن مضى اختلفت كثيرا عن اليوم حيث انفرط عقد الفكر الماركسي الشيوعي ومنظومته الدولية، وتراجع الفكر القومي الشوفيني أيضا، فغدت التنظيمات جميعها تقريبا تسبح في فضاء الفكر الديمقراطي العلماني الممتدة جذوره في الحضارة العربية الاسلامية وإن بأثواب متجددة مثل (الاشتراكية =الاجتماعية الديمقراطية) أوالعلمانية (وليست اللادينية) والوطنية.
كان من الضروري أن نقدم بذلك لنقول أن التنظيمات عامة هي ذات إرث نضالي وكفاحي فلسطيني، وليست نبتا شيطانيا أوتنظيمات بلا قاعدة أو جمهور كما يحاول أن يصورها البعض، بغض النظر عن حجم الامتدادات التي أصبحت صعبة المنال لكافة الفصائل حتى الجديدة منها مثل "حماس" و"الجهاد" و"المبادرة".
سؤالنا المركزي هنا هو أين هذه الفصائل من هبّة أو انتفاضة أوغضبة القدس؟ وهل من الجائز أن يحوم الوضع السياسي الفلسطيني حاليا حول ثنائية حركة "فتح" – "حماس" كما كان في السابق حول حركة "فتح" – "الشعبية"؟
أقول أن الثنائية قد تكون في وضعنا الفلسطيني قاتلة، لأن التعددية المنفتحة التي تعلم أين تتفق مبدئيا فتقف عند حدودها، وتعرف أين تختلف هي التي تشكل درعا للوطن ودرءا له عن مخاطر جمّة يتخطفنا الإقليم باتجاهها, وتعريجا على هبة القدس فإن أدوار الفصائل (القومية والديمقراطية الاشتراكية سواء القديمة، أو الجديدة وأبرزها حركة المبادرة) هي ما بين حالات ثلاث: فهي إما مشاركة ومنخرطة قليلا أو كثيرا لا يهم، وإما داعمة ومساندة ليس بفعالية الانخراط، وإما نائية وهذه الاخيرة بلا أي مقوم من مقومات الانخراط أو الدعم لأنها هي بحاجة لتجديد خطابها وضخ دماء جديدة بها واعادة بناء فكرها ومعالجة وضعها بين الجماهير. (قد يحتاج تنظيم الجهاد الاسلامي لورقة خاصة).
من هنا فإننا بغض النظر عن مستوى وحجم المشاركة الميدانية فلا شك أن كل التنظيمات هي في الإطار الفاعل أكان المقصود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو المبادرة الوطنية أو الجبهة الديمقراطية أو الجبهة العربية أو جبهة التحرير الفلسطينية أو جبهة النضال الشعبي أو حزب الشعب أو حزب فدا أو غيرها، وهي وإن تقاربت برامجها-في غالبها- ما قد يمكنها في المستقبل من توحيد قواها وأطر جماهيرها إلا أنها في ذات الفعل النضالي تشكل صمام أمان للوحدة الوطنية، كما قد تشكل حصان طروادة للآخرين حال تشتتها أو ركوبها أمواج بحر ليس بحرنا، أو التجاء بعض تياراتها للانتهازية للّعب على القطبية الثنائية بين حركة فتح و"حماس" لمصالح حزبية بحتة لا للمصلحة الوطنية العامة.
إن على فصائل المعارضة الفلسطينية عامة أن تنزع عن بعض رموزها وطروحاتها وأساليبها وهَن السنين، وقصر النظرة أوازدواجيتها، وعليها أن تتحرر من عقدة الحجم والدور المساند فقط، كما عقدة التهيب من الآخر أو الانصياع له، في معادلة تحافظ على ردائها الفكري المنفتح في إطار الديمقراطية التي تفهم التقبل والتفهم والتجاور، كما عليها تمتين وعيها النضالي والمجتمعي والعربي، فتفصل كليا مسارها عن الفكر الظلامي الإقصائي سواء لدى الجانب الديني أو العلماني.
من هنا فإن كنا نقرّ بتقصير كافة الفصائل على صعيد الدعم القيادي السياسي لغضبة القدس، وإن بدرجات مختلفة، فإن مثل هذا التقصير يطال فصائل اليسار أو المعارضة الوطنية الفلسطينية، ولا يعفيها أبدا من دورها المزدوج في إلهاب النضال الشعبي من جهة وفي السعي الحثيث لتحقيق الوحدة الوطنية.