في صباح يوم 16/4/1988 الساعة الواحدة والنصف، وصلت السيارات المكَّلفة بتنفيذ عملية اغتيال القائد الفلسطيني الفتحاوي أبو جهاد في العاصمة تونس. عملية إجرامية نفذها الموساد الإسرائيلي بعد وصول المجموعات المدرَّبة إلى تونس، وتنقلت بواسطة السيارات المستأجرة، لتأخذ مواقعها المحددة تمهيداً لاقتحام المنزل الذي يقيم فيه القائد أبو جهاد خليل الوزير وأسرته، وتغتال هذا القائد الوطني الذي أقضَّ مضاجع العدو الإسرائيلي من خلال سلسلة عمليات بطولية وغاية في الدقة والتخطيط، وخاصة عملية الشهيد كمال عدوان (بطلتها دلال المغربي) العام 1978، وعملية ديمونا  العام 8/3/1988، وعملية محاولة السيطرة على وزارة الدفاع التي نفذها عشرون مسلحاً وثمانية بحارة، لكن إسرائيل تنبهت للعملية العسكرية واشتبكت مع المقاتلين، واستُشهد البعض، وأسر عدد آخر. هذه القدرة العسكرية هي التي جعلت المجلس الوزاري المصَّغر يقرر إغتيال القائد أبو جهاد عضو اللجنة المركزية مستعيناً بمجموعات من الموساد إضافة إلى الطائرات والبواخر، وكلها تتحرك في إطار خطة جهنمية غادرة.

إنَّ العدو الإسرائيلي يدرك أهمية هذا الرجل الصامت ولكنه المنهمك دائماً بالتخطيط والتنفيذ، وهو أبو جهاد الذي كان له الفضل الكبير في إنطلاقة الثورة الفلسطينية، وفي تحقيق النصر عندما وقعت معركة الكرامة العام 21/3/1968، وتم مقاومة الاجتياح الإسرائيلي في صمود بيروت التاريخي 1982، وفي التخطيط والهندسة لانتفاضة الحجارة 8/12/1987 التي تمكنت من قلب المعادلة العسكرية والسياسية ووضعت الكيان الإسرائيلي في عزلة دولية كاملة، بينما إنطلق الانتصار الفلسطيني عبر معادلة الحجر بوجه الدبابة. لا بد في ذكرى استشهاد القائد أبو جهاد خليل الوزير أن نتوقَّف عند مجموعة من المميزات والقدرات التي جعلت هذا الرجل الفتحاوي في هذا المستوى من الخطورة الذي يستهدف الكيان الإسرائيلي.

 

أولاً: إن ثقته المطلقة بهذه الحركة الرائدة حركة فتح هي التي منحته عناصر الصمود والإصرار الوطني في مختلف المراحل التي عاشتها الثورة الفلسطينية، وكان له الفضل إلى جانب ياسر عرفات وباقي القادة بتحقيق الانتصار في معركة الكرامة، والصمود بوجه الاجتياح الإسرائيلي.

ثانياً: كان له الدور المؤثَّر في الحفاظ على الجسم الرئيس من الحركة بعد الانشقاق في العام 1983، واستطاع متابعة دقائق الأمور عسكرياً وسياسياً، وفي الشمال والجنوب مؤكداً أنَّ بوصلته دائماً متجهة إلى فلسطين مهما كانت محاولات حرف النضال الفلسطيني.

ثالثاً: لقد شكَّل أبو جهاد خليل الوزير رحمه الله حجر الرحى في واقع الثورة الفلسطينية، فكان باستمرار القاسم المشترك بين الجميع، بل هو الجامع لهم على أرضية الانتماء لفلسطين والمشروع الوطني، وهذا ما جعله المحاور الأول بين الجميع، والناجح دائماً في تحقيق الانجازات الوطنية والوحدة الوطنية.

رابعاً: كان أبو جهاد يتمتع بقدرة غريبة على الاستقطاب، وفتح القنوات، والتواصل مع رموز وطنية ودينية وسياسية متباينة، لكن كلها تجتمع، وتحاور، وتناقش في بيت أبي جهاد، وفي عقل أبي جهاد، وهذا ما جعله صاحب مدرسة ثورية تتميز بالقيم الأخلاقية والنضالية والوضوح السياسي، وما زال أتباعه حتى الآن الذين تأثروا به، وبمدرسته التي هي مدرسة الفتح يعبّرون عن إعتزازهم، وفخرهم بالعلاقة معه كقائد مؤسس لحركة فتح.

خامساً: استطاع بلغة فلسطين، وثورتها، وبمنطلقات حركة فتح أن يستقطب كافة حركات التحرر العالمية، وأن يصنع منهجاً موحَّداً لها يقوم على أساس أن الحركة الصهيونية العنصرية هي العدو الأول للشعب الفلسطيني، ولشعوب العالم المناضلة من أجل الحرية والسيادة، وأنه لا بد من تشكيل جبهة واحدة تضم كافة حركات التحرر العالمية بوجه الاستعمار والامبريالية والصهيونية.

سادساً: كان أبو جهاد رحمه الله منذ بداية الخمسينات يعشق مقاومة الاحتلال، وصناعة المتفجرات، واستطلاع الأهداف، وتكوين المجموعات العسكرية، إنه ابن مدينة الرملة اللاجئ مع أهله إلى قطاع غزة حيث بركان الثورة، وحيث التمرد على أشكال الاحتلال والظلم. وهكذا كانت مسيرة أبي جهاد منذ البداية وحتى اللحظة الأخيرة من حياته. وهذا ما أثار الرعب في قلوب القيادات العسكرية الاسرائيلية، هذه القيادات التي استهدفت خليل الوزير أبو جهاد بستين محاولة اغتيال فشلت كلها بإستثناء الأخيرة التي جنَّدت فيها إسرائيل كل طاقاتها وعملائها.

سابعاً: إن المميزات الشخصية لأبو جهاد الوزير من إيمان بالقضاء والقدر، والبحث دائماً عن الموقع العسكري المتقدم ليكون جنباً إلى جنب مع المقاتل في الخندق والجبهة، والمتواضع، المبتسم بوجه الصغير والكبير في عزّ الأزمات، لا يعرف اليأسُ إلى قلبه طريقاً، يزرعُ الأملَ بالنصر مهما اشتدت المعارك، ومهما علا هدير الطائرات، ودوي المدافع، وأنين الجرحى، والدمار والركام، وقوافل الشهداء، إنها إرادة القادة الابطال، صُنَّاع التاريخ وأمجاد الأمة.

ثامناً: كل أيام أبي جهاد كانت رائعة ومميزة ومكللة بالنصر والغار، ولعلّ أعظمها إبداعاً وابتكاراً، وصناعةً وطنيةً، وشموليةً شعبيةً، وتأثيراً سياسياً كانت إنتفاضة 8/12/1987، انتفاضة جنرالات الحجارة التي هزمت الكيان الاسرائيلي، وقزَّمت ترسانته العسكرية، وأذلت غطرسته وغروره أمام الحجر والمقلاع والخنجر، إنتفاضة نابعة من تجربة ثورية ناضجة، ومن إيمان مطلق بقدرة الجماهير على صناعة حريتها بيدها. وأن الشعوب عندما تصمم لا تُهزم.

تمكن الشهيد القائد أبو جهاد من ترسيخ بنيان الانتفاضة الشامخة، وهندسها ورسم لها طريقها، وحدد لها دروبها، ومخارجها، ولجانها، وأعدَّ لها قادتها، وظلَّ يتابع هذا الوليدَ الفلسطيني ليل نهار، يتوقف عند كل صغيرة وكبيرة، وعندما اكتمل الوليد، وانطلق معززاً ومؤزراً، عندها غادر أبو جهاد مهندس الانتفاضة إلى العالم الآخر، إلى حيث النبيين، والصدّيقين والشهداء.

ونحن نحتفي بذكرى استشهاد القائد خليل الوزير لا يمكننا إلاّ أن نحتفي أيضاً بيوم الأسير الفلسطيني، وهو اليوم اللصيق بيوم خليل الوزير، ففي السابع عشر من نيسان كان يوم الأسير وهو اليوم الذي أُفرج فيه عن الأسير الأول المناضل محمود بكر حجازي، فكلما تذكّرنا أبا جهاد علينا أن نتذكر الأسرى الذين يختزنون في ذاكرتهم روايات نضالية، وعملياتٍ عسكرية بطولية، ومواقف تاريخية جمعتهم مع أبو جهاد الوزير.

نقف اليوم بكل فخر واعتزاز أمام الآلاف من أسرانا الأشاوس، يكتبون لنا تاريخاً مجيداً، وصموداً تاريخياً خلف القضبان، وفي وحشة الزنازين، وغياهب المعتقلات، ما يزيد على خمسة آلاف معتقل بينهم النساء والأطفال، والمرضى المهددة حياتهم بالموت بسبب الإجراءات العنصرية والأحقاد الصهيونية التي تتعمد حرمان المرضى المصابين بأمراض خطيرة من العلاج السليم في محاولة مدروسة لقتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الأسرى، وقد شاهدنا العشرات من هؤلاء الابطال يموتون بسبب غياب العلاج، وبسبب تحوُّل بعض المستشفيات الاسرائيلية إلى مراكز للموت. ورغم الأصوات الدولية واللجان القانونية والصحية، لكنّ العدو الإسرائيلي يتجاهل كافة النداءات، ويمارس ما يحلو له من قهر، وتعذيب، واغتيال.

ونحن نهيب بالهيئات الدولية إعطاء الأولوية والأهمية لحماية أسرانا وأسيراتنا، وأطفالنا، والأسرى القدامى، والأسرى القادة ونخص منهم القائد مروان البرغوثي، وأحمد سعدات، وفؤاد الشوبكي، ولينا الجربوع، ونحن ندعو إلى فعاليات ساخنة دعماً لأبطالنا الأسرى، وتضامناً معهم من أجل تحريك المجتمع الدولي.

 

يا جماهير شعبنا الفلسطيني المجاهد المكافح...

ونحن نحتفي بالشهيد أبو جهاد، ونكرِّم الأسرى، نرفع الصوت عالياً باسم القدس وأقصاها، ومقدساتها الاسسلامية والمسيحية، وننبِّهُ إلى المخاطر الحقيقية التي باتت تهدد عاصمة دولتنا الفلسطينية، وشعبنا الصامد الرابض في الخندق الأول، وشبابنا الذي وهب حياته للدفاع عن منبر صلاح الدين، وقبة الصخرة، والباحات، والأبواب، ونذكّر بأن الصمت العربي والاسلامي تجاه الجرائم اليومية التي يرتكبها العدو الصهيوني، والاعتداء على النساء والعجزة، وعلى الفتيان، هذا الصمت مؤلم ومُرعب، لكننا نعاهدكم بأن نظل أوفياء وأمناء لواجبنا المقدس. فألف تحية لكم يا أهل القدس كباراًَ وصغاراً، نساء وأطفالاً، فأنتم اليوم بوقفتكم المشهودة ترفعون رؤوسنا، وتزرعون الأمل فينا.

إن الارهاب الصهيوني المتصاعد، والعدوان اليومي على أهلنا في الضفة وغزة يزيدنا تمسكاً بحقوقنا الوطنية المشروعة، كما يزيدنا إصراراً على التمسك بقرارات الشرعية الدولية، وبمصالح شعبنا الوطنية العليا، فدولتنا الفلسطينية المستقلة المعترف بها دولياً قائمة بإذن الله والقدس الشرقية بكاملها هي العاصمة الأبدية، والسيادة لنا على ارضنا، وفي سمائنا وفي باطن الارض، وعلى معابرنا، وكل أغوارنا، ولن نقبل بوجود أي جندي على أرضنا.

 وإننا نؤكد للجميع وتحت كل الظروف بأننا الأوفياء لثوابتنا الوطنية، وإننا لن نساوم على حقوقنا، وإننا سننطلق من أجل إنهاء الإنقسام وتحقيق المصالحة الوطنية، مسلَّحين بالمقاومة الشعبية، والإنتماء إلى الهيئات الدولية لتعزيز علاقاتنا الدولية على طريق محاسبة الكيان الإسرائيلي وقادته المجرمين، ومن أجل حماية شعبنا، والإفراج عن الأسرى المقاتلين من أجل الحرية.

إلى كل أهلنا وأبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات نؤكد بأن هذه المسيرة الوطنية التحريرية والتي قضى فيها الرمز ياسر عرفات والشهيد أبو جهاد، والقادة صلاح خلف، وأبو علي إياد، وخالد الحسن، وأبو الهول، وهاني الحسن، وصخر حبش، وعبد الفتاح حمود، وأبو صبري صيدم، وصبحي أبو كرش، وماجد أبو شرار، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، وكمال ناصر، واللائحة تطول، نؤكد للجميع ثقتنا الكاملة بالرئيس أبو مازن حامل أمانة ياسر عرفات، والحريص على ثوابته ودربه رغم كل التحديات وستبقى راية الفتح خفَّاقة، وفي الطليعة دائماً، لأنّ حركة فتح هي ضمانة استمرار مقاومة الاحتلال وهي الكفيلة بمواصلة الثورة حتى النصر.

 

قيادة حركة فتح – اقليم لبنان  17/4/2014