خاص/ مجلة القدس- بقلم: محمد سرور

دخلنا مرحلة ما بعد سايكس بيكو، ومعها دخلنا عصر تغيرات نوعية واستراتيجية عميقة.
ترسيم الحدود المصرية- السعودية، هو ترسيم سياسي بامتياز، ولا يعني بأنه أقل من مبايعة مصرية حقيقية لزعامة عربية- إسلامية تتولاها السعودية كوريثة مستقبلية للزعامة التاريخية التي تولتها مصر عقودًا طويلة من الزمن. وهي- أي مصر، تتنازل عنها الآن لاعتبارات لا يمكن حصرها في هذه المقالة، كونها تحتاج إلى العديد من الدراسات التي تضيء على الواقع الإقتصادي- الأمني والسياسي لأرض الكنانة.
لن يكون للتنازل المصري عن جزيرتي صنافير وتيران مفعوله العابر، حتى لو كان نتاج عملية تحكيم مفتعلة كمخرج من البلدين المصري والسعودي لإقناع الرأي العام المصري الذي لن يبتلع مسألة التخلي عن جزء من أرضه لصالح أي بلد كان. فالمسألة  تمثل فاتحة عهد جديد من علاقات كانت حتى أمس قريب مجرد اجتهادات وتكهنات لا أكثر، خاصة بين السعودية وإسرائيل.
أهمية الجزيرتين تكمن في كونهما تقعان في البوابة العليا للبحر الأحمر، الضيق أصلا، وكونهما مدرجتين في اتفاقية كامب ديفيد، بحيث تبقيان منزوعتي السلاح ويسمح للبحرية الاسرائيلية المرور محاذاتهما بحرية.
الحكومة المصرية أبلغت إسرائيل بقرارها التخلي عن الجزيرتين، وبدورها المملكة السعوية طمأنت إسرائيل حول التزامها ضمان حرية الملاحة للسفن الإسرائيلية، وبقائهما منزوعتي السلاح طبقا لما نقل عن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، فيما وزير الدفاع في حكومة نتنياهو- يعلون- عبّر عن اطمئنانه لأن الحدث "يمهد لعلاقات أكثر دفئا" مع المملكة السعوية.
فيما وصف تسفي برئيل في جريدة هآرتس الإسرائيلية التنازل المصري عن الجزيرتين بأنه "يحوّل مصر إلى محمية سعودية... وهما ثمن الدعم السخي الذي قدمته المملكة إلى مصر...".
لقد ورث العهد المصري الجديد تركة ثقيلة من التردي الإقتصادي العميق الذي لا يمكن التكهن بمدى استمراره، لأن تحسين الإقتصاد يفترض وجود بنية تحتية شاملة، وبنية إدارة حديثة تخفف عنه العبء الإداري الذي يستهلك الطاقات الموجودة في جسم الإدارات العامة. يحتاج النهوض إلى بيئة أمنية مستقرة وبرامج تطوير مرحلية قابلة للتحقق. فالذين يمولون الجماعات الإرهابية على الأرض المصرية يدركون هشاشة البنية الإقتصادية المصرية ومنسوب احتمالها حرب استنزاف طويلة الأمد.
لذلك علينا أن نعترف بمحدودية القدرة المصرية على الفعل وعلى تبوّء مركز القيادة. فلهذا المركز قوته المعنوية المتمثلة بتماسك وقوة السلطة التي تمسك بمقاليد الأمور الداخلية  ومن خلال فائض قوّتها الداخلية تستطيع فرض نفسها في المعادلة الإقليمية، وأي كلام خارج هذا المنطق لا يعدو كونه تمنيات لا أكثر.
كما أنه علينا الإعتراف بأن الدعم السعودي لمصر يتعدى ما تقدمه المملكة للحكومة المصرية، فسوق العمل السعودي والخليجي يؤمن لمصر شهريًا السيولة اللازمة لشراء المواد الأولية التي يحتاجها الشعب المصري. فمخزون البلد من القمح –مثلا- لا يتعدى الأسابيع القليلة، ناهيك عن اكثر من 170 مليار دولار من الديون الخارجية التي تلزم مصر بدفع فوائدها والإصغاء إلى شروط الدول والبنوك المدينة التي وعلى رأسها البنك الدولي.
إن أكثر الدول معرفة بحال مصر، وتفاصيل وعمق ازماتها هي إسرائيل. لذلك لم تتردد إسرائيل عن استعمال مصر كحصان طروادة من أجل التواصل مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج كونها تحتاج إلى نوعين من الفائدة: تعميم شرعيتها في العالم العربي من بوابة الفزاعة الإيرانية بصفتها العدو الأول للعرب- لا هي، وبذات الوقت حشر نفسها في المعسكر المعتدل للتخفف من عار الإحتلال والجرائم التي تنفذها كل يوم دون أن تدفع ثمنه أو تكون ملزمة على تنفيذ مقررات القانون الدولي المتعلق بالقضية الفلسطينية.
الحدث الآخر والذي يفوق الأول أهمية بكثير، والمتصل بما سبق وذكرناه، هو اول انعقاد لحكومة إسرائيلية في مرتفعات الجولان السورية المحتلة. فالحدث أضاء على أمور عدّة لا يمكن إغفالها أبدًا، كونها تؤكد الترسيم الكولونيالي لخارطة ما بعد سايكس بيكو.
الخطوة الإسرائيلية، وحسب تصريحات رئيس حكومة الإحتلال بنيامين نتنياهو تعني تكريس قرار الحكومة الإسرائيلية الصادر في العام 1981 بشأن ضم المرتفعات المحتلة. نتنياهو دعا إلى تكثيف الإستيطان في المرتفعات التي تبلغ مساحتها حوالي 1200 كلم مربع، ويسكنها حتى الآن حوالي 20000 ألف مستوطن إسرائيلي إلى جانب حوالي 20000 مواطن سوري يعيشون في أربع قرى هي: مجدل شمس ومسعدة وعين قنيا والغجر، كما دعا إلى زيادة الإهتمام بمسألتي الزراعة والسياحة في الجولان.لطفية سالميرى المراقبون أن خطوة نتنياهو تعني: أن المشكلة لم تعد في الإحتلال بل في تغيير واقعه الحالي، وبذلك يكون أي عمل تقوم به جماعات أو دول لاسترداد المرتفعات المحتلة أو سوها يقع تحت مسمى الإرهاب، وبالتالي يحق لإسرائيل الدفاع عن أرض هي لها وفق منظومة القوانين المستحدثة بناء على الأمر الواقع الذي فرضته على الأرض.
كما أن للخطوة الإسرائيلية معنى خلط المفاهيم  والتعمية على الرأي العام الدولي وفق منظومة القيم الخاصة بحكومة نتنياهو والتي تتضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة أيضًا. فمن خلال الأجواء التي سادت اجتماع حكومة الإحتلال في الجولان خرج نائب وزير الزراعة في الحكومة الإسرائيلية إلى الدعوة بإصدار قرار مماثل لقرار ضم الجولان في الضفة الغربية المحتلة.
هنا نحن امام مفارقتين هامتين: هما تعديل مفهوم الإحتلال وفق خارطة فائض القوة، يوازيه مفهوم حق المقاومة من المنظور الإسرائيلي، بيحث يصبح واقع الحال قانونًا يقتضي بموجبه معاقبة كل مقاوم للواقع أو حتى المعترض عليه.
قد لا يبدو الأمر جديدًا بالنسبة للأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تصدر الأحكام الصارمة بحق المقاومين الذين يتم اعتقالهم  أو أسرهم، على أساس أنهم يستهدفون الأمن الإسرائيلي، مما يعني أن الأراضي الفلسطينية كلها بالعرف الإسرائيلي هي أراض إسرائيلية. وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة فائقة الأهمية وتؤشر بشكل مباشر إلى مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإذا كانت مسألة الصراع على الحدود بين إسرائيل وجاراتها غير قابلة للتعديل وفق الخارطة الإسرائيلية، فإن الصراع في العمق، أي حول إنجاز مسألة الدولتين الجارتين، هو بالمنطق الإسرائيلي خارج أي مجال للمساومة، وعليه فإن كل ما جرى التوقيع عليه منذ العام 1993 وحتى الآن أصبح خارج دائرة الإعتبار وبحكم الملغى.  
المشكلة الكبرى التي تشكل منفذًا هامًا لتكريس مثل تلك السياسة الإسرائيلية تكمن في الإحتشاد العنفي لدول المنطقة حول صراع طويل يبدو معه الأفق مسدودًا على إمكانية الحل في المدى المنظور. وإذا ما نظرنا إلى ما سيخلفه الصراع الدموي من دمار في البنية الإنسانية والإقتصادية، فإن كارثة حقيقية تتربص بالبلدان وشعوبها، وبالطبع قضاياها الهامة التي في طليعتها القضية الفلسطينية.
رغم كل ما سبق تبقى الوحدة الوطنية الفلسطينية واحدة من الأوراق الرابحة التي كان ولم يزل هناك مجال لأن تُلعب، كونها تخفف بعض الخسائر الداخلية وتجبر العدو على التردد في سياسة التمادي التي ينتهجها. وما تمسك حماس بالمراهنة على فتات شروط التطبيع الإسرائيلي- التركي سوى المزيد من إضاعة الوقت على القوى الوطنية الفلسطينية للخروج من المتاهة المظلمة التي وضعتها فيها تلك السياسة الخالية من روح المسؤولية تحت حجج ومبررات لم تعد تشفي ولا تسمن.للأسف تركيا التي غادرت حلم الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي بعد أن راودها حلم امبراطورية الخلافة لم تزل تريد حماس واحدة من أوراقها في المنطقة، وبخاصة تحسين شروط التطبيع مع حكومة نتنياهو وتفعيل دور المعسكر الأخواني بصفته البديل الثابت لواقع حكومات المنطقة رغم الهزائم المتتالية التي أصابته في مصر وبدء انحسار الدور التركي نتيجة انتقال الإرهاب إلى عقر داره.