بقلم: خالد أبوعدنان


تمر الحضارة الغربية بمعضلة داخلية تخلط بين حرية الرأي وحق التعبير عن الرأي المغاير وبين خيانة الوطن وانتهاك الأمن القومي، ومن أجل توضيح هذا الخلط قامت الجامعات الغربية بإعادة دراسات علمية بحثية قديمة لتعريف الولاء للدولة والانتماء للقومية وحق المواطن وواجباته وكذلك فهم حدود الديموقراطية ضمن المتغيرات الدولية التي أفرزت قطبا عالميا واحدا لكنه يعاني أزمات اقتصادية تراكمية. وفي قراءة أوراق المؤتمر الصهيوني الدولي السابع والثلاثين الذي عقد بمدينة القدس المحتلة في 20-22/10/2015 نرى أن إسرائيل تعاني ترهل هذه المفاهيم في مجتمعها وأنها تبحث عن تعريفات جديدة لها.
تسويد وجه إسرائيل من قبل الإسرائيليين سبّب خوفاً مستفزاً في أوساط النخب السياسية والاقتصادية الصهيونية، وهي تتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء في فهم الولاء لدولة بدأت باعترافات الجنود الإسرائيليين عن انتهاكاتهم لكل قواعد الإنسانية ضد المنتفضين الفلسطينيين ثم تتالت أصوات قليلة تنادي بضرورة إيجاد مؤسسات ترى الحوار المجتمعي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإزالة حواجز الكراهية لكنها اصطدمت كثيراً بإصرار الحاخامات المتزمتين والمستوطنين المتشددين بضرورة إبقاء التعليم اليهودي كما هو بخصوص تغذية الكراهية ضد العرب. إلا أن هذه المؤسسات كانت تصر على ضرورة استمرار العملية السلمية وإيجاد حل عادل يقبله الجميع تحت رعاية الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
هذه المنظمات تعتبر جزءا من الثقافة الشعبية المنطقية المقبولة في جميع المناطق التي تعاني أزمات وحروبا فهي التطبيق العملي لمفهوم السلام العادل والشامل ضمن بوتقة التعايش السلمي الذي يرسخ البنى المجتمعية الحاضنة للفكر السلمي لدى النخب الاقتصادية والسياسية مما يعيد تشكيل الرأسمال المجتمعي ليفسح أفقا جديدة في فهم الولاء والانتماء والمواطنة كما حدث في ألمانيا بعد هدم سور برلين.
لكنْ هناك اتجاه معاكس لهذه الثقافة الشعبية يقوم أساساً على هدم البنى السياسية وهيكلية الدولة للوصول لمرحلة الفراغ الإحلالي بين المجموعتين المتنازعتين مما يشكل دولة جامعة تقودها فكرة جديدة غير متفق عليها مسبقاً بل تترك للتطبيق التجريبي كما حدث في جنوب إفريقيا ونسبيا في إيرلندا الشمالية.
بدأت هذه الفكر بالظهور في فلسطين منذ بدايات الانتداب البريطاني على فلسطين وتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي حارب فكرة العمل العبري وركيزتها الكيبوتس واقتصار التعاملات بين اليهود أنفسهم وفكرة نقابة عمال لليهود فقط الممثلة بالهستدروت، فجاء النضال اليساري الداعي لضرورة إقامة دولة علمانية تؤمن بالمساواة بين المواطنين وثم بدأ نشاطهم ليشمل على مقاطعة بضائع منتجات الكبيوتسات وكل نشاطات الهستدروت، وهي أقدم حملة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والتي بدأت في صيف عام 1926 في مدينة حيفا، لكنها لم تأخذ بعدها الإقليمي إلا في عام 1946 بقرار بلودان الشهير الصادر من جامعة الدول العربية الخاص بضرورة مقاطعة كل المنتجات الإسرائيلية لحين حل القضايا السياسية العالقة. لكننا هنا لا بد أن نسجل أن مؤسسات الهستدروت الزراعية والصناعية كانت طيلة ثلاثين عاماً تعتمد على الأسواق العربية بل إنها لم تكن تفكر بالتصدير لأوروبا بسبب الكلفة العالية. إلا أن التنفيذ الحقيقي للمقاطعة جاء في زمن الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر الذي جعل لها جهازا خاصا ومكاتب مراقبة في كافة الدول العربية، ثم أضاف لها بنود مقاطعة من الدرجة الثانية، والتي تشمل على الشركات التي تتعامل مع إسرائيل وغيرها من العقوبات التي فرضها على الدول التي تساند إسرائيل ضد الأمة العربية، إلا أن بنود مقاطعة من الدرجة الثانية تم إلغاؤها ضمن حزمة الشروط الأمريكية على الجامعة العربية لتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي مع تعديلات مفهوم مقاطعة إسرائيل ضمن إطار مفهوم سياسي جديد وهو التطبيع مقابل السلام العادل والشامل.
أما الجديد بالموضوع فهو قادم من الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل المعروفة اختصارا "بي أس دي BSD" والتي تأسست عام 2005 من تجمهر لأكثر من 170 منظمة غير حكومية منتشرة بالدول الغربية بدعوة من الأستاذ عمر البرغوثي، إلا أنها تنسق أعمالها مع اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة وفضح ومعاقبة إسرائيل اعتمادا على الفعل الشعبي السلمي بالدول الغربية للضغط عليها لمقاطعة إسرائيل أو بعض المؤسسات الإسرائيلية. وهي تتجاوز المفاهيم القديمة التي كانت تركز على أن الفكر الصهيوني فكر عنصري، بل هي حركة تعني بضرورة فضح كل الممارسات الإسرائيلية العنصرية والعمل على تجريم إسرائيل بالمحافل الدولية، مسترشدين بقرار محكمة العدل الدولية وقرارها الصادر في 9/7/2005 والذي وصف الجدار الفاصل الذي أنشأته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية أنه غير قانوني وممارسة عنصرية من قوى محتلة، وهذا القرار كان الأساس الجذري الذي أسس للتجمهر ضمن حملة الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل
ورغم أن الحركة ليس لها قرارات مركزية إلا أن غالبيتها تؤمن بضرورة المساواة بين المواطنين داخل إسرائيل وضرورة حماية ممتلكاتهم، وهناك أصوات داخل الحركة تطالب بضرورة تطبيق قرار 194 بخصوص حق العودة وأيضا هناك أصوات تنادي بضرورة فك الحصار عن قطاع غزة. وهذا يعني أنها لا تتبنى استراتيجية نهائية للصراع بل لا ترى أفقا للعملية السلمية، فهي دائمة الهجوم على الحكومة الإسرائيلية وترى أن النخب السياسية في إسرائيل تجر شعبها لكارثة مستقبلية، ومن جانب آخر فهي لا ترى أن السلطة الفلسطينية قادرة على استرداد حقوق الفلسطينيين بسبب فسادها الإداري والمالي وترهلها الفكري وهي لا ترى أن الكفاح المسلح أو أي عمل عنفي قادر على تغيير واقع الاحتلال مما يعني أن هذه الحركة تؤمن بضرورة هدم الأحزاب السياسية في فلسطين وإسرائيل وإعادة هيكلة المجتمع ضمن إطار حل الدولة الواحدة على طريقة مانديلا في جنوب إفريقيا.
أما آلية عملها فله ثلاثة أركان متداخلة تهدف بالنهاية إلي محاصرة إسرائيل وهدم علاقاتها مع العالم من خلال مقاطعة منتجات الشركات الإسرائيلية وكذلك الشركات الداعمة لإسرائيل على أن تشمل كافة أنواع الشركات الاقتصادية والثقافية والرياضية، فكلمة شركات هنا قد تعني أيضا مؤسسات وجامعات وأندية رياضية وفرقاً فنية وحتى برامج سياحية. وفي جانب آخر هناك حملة سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية والمؤسسات الدولية الداعمة لإسرائيل، والمقصود الاستثمارات المالية أساساً لكنها توسعت لتشمل أوجه إيقاف التعاون الأكاديمي والثقافي والرياضي. أما الإضافة الرائعة للحركة فهو تبنيها هدفها الثالث بضرورة معاقبة إسرائيل، ضمن دعوة محاكمة القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية كمجرمي حرب وكذلك توعية الجمهور الغربي بضرورة تجريم ومعاقبة كل من ينتهك حقوق الإنسان الفلسطيني من الإسرائيليين وخاصة من المستوطنين المتشددين.
أما أساليب عملها فهي تعتمد على الفعاليات السلمية المسموح القيام بها بالدول الغربية من مظاهرات التعبير عن الرأي وحلقات النقاش والمناظرات الندية لتصل لتقديم العرائض للمؤسسات التشريعية في البرلمانات وأيضا لمجالس الإدارة بالشركات العملاقة. تمتاز بعض أعمالها بالمهنية العالية والعمل الصبور لتحقيق الأهداف الصغرى. لكن ليس كل أعمالها تحقق النجاح المرجو بل أحياناً تفشل الحملة بإغلاق متجر ما لكن الرسالة تكون قد وصلت للزبائن عن طريق الثقافة الشعبية التي تتقبل التمرد المحدود على الديموقراطية الغربية.
ومهما حاولت الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل تسجيل انتصارات كبرى، تبقى العقبة الحقيقية هي العلاقات الدبلوماسية المتينة بين الدول الغربية وإسرائيل، وأن هناك تحالفا استراتيجيا بينها يجعل مسألة فك اللحمة بينهم نوعاً من الاستراتيجية البعيدة المدى ضمن النضال الطبقي ضد النخب السياسية والاقتصادية في العالم. إلا أن الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل استطاعت أن تغرس اسمها في الثقافة الشعبية وتتميز عن باقي النشطاء السياسيين بأنهم يطرحون قضية معينة مع شركة محددة مثلاً، فهم لا يطرحون إغلاق شركة وطنية في بلدهم بل يطالبونها بعدم بيع منتوجات إسرائيلية مثلا، وهذه الطريقة العملية جعلتها تحقق نجاحات صغيرة لكنها كثيرة على صعيد المحلات التجارية الصغرى دون قدرتهم على مقارعة الشركات الكبرى المتعددة الفروع إلا بحالات نادرة. فهي تدعو للتمييز العنصري المضاد ضد ما له علاقة بالدولة العبرية، وهذا من الناحية القانونية ممنوع بأغلب الدول الغربية. ومثال على ذلك الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، كان له أعداؤه بين صفوف الأكاديميين والحقوقيين بسبب تعارضه مع قوانين عديدة تميز بين العلاقات السياسية والتعاملات التجارية خاصة ضمن منهاج العولمة واقتصاد السوق الدولي
إلا أننا هنا سوف نتناول القضية ضمن قراءة نقدية ثورية فلسطينية للحملة العالمية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. لأنها أصبحت مثار جدل واسع بين من يرى أنها شعار ثوري وآخرون يرون أنها أسلوب نضالي بينما يعرفها أصحابها بالخيار الاستراتيجي لدحر الاحتلال الإسرائيلي.
أولا: الاسترشاد بتجربة جنوب افريقيا يعني الاسترشاد بثورة كاملة لا بأحد أساليبها النضالية، فكما كان هناك دور فعلي لنشطاء السلام بالدول الغربية لدعم الثورة في جنوب إفريقيا إلا أن الثورة كانت تمارس أساليب نضالية متعددة منها السلمي ومنها العنفي، وقد يكون الجانب العنفي مهملا لأنه يشكل مرحلة بدايات الثورة إلا أنه استمر حتى نهاية الثورة لكن حجمه كان يتقلص مع مرور الوقت، بينما الفعاليات الشعبية السلمية توسعت لتشمل قطاعات واسعة من الشعب أكبر من قدرة النقابات على السيطرة عليها، وكان هناك ضغط مستمر على القيادة الميدانية بضرورة مراعاة ظروف الجماهير الجائعة مما دفعها لعقد هدنات متكررة لأسباب إنسانية. ومن جانب آخر فقد تم حذف أي عقوبات على الإفريقيين الفقراء الذين لا يجدون عملاً إلا عن طريق الأقلية البيضاء لحين توفير فرص عمل مناسبة لهم. والأهم من ذلك أن الذين تفاوضوا باسم الثورة كانوا معتقلين بسجون الأقلية البيضاء بسبب نشاطاتهم المعادية ولم يكن أي منهم جزءا من حملة المقاطعة الدولية، فالمعتقلون السياسيون وعلى رأسهم الراحل نيلسون مانديلا كانوا ثوارا حقيقيين استخدموا كافة الأساليب النضالية ومنها طلبهم دعم أحرار العالم لثورتهم وخاصة ذوي الأصول الجنوب إفريقية.
ثانيا: تعتبر فكرة مقاطعة البضائع أحد الأساليب النضالية المهمة في النضال الداخلي في العالم الغربي المؤمن بالاقتصاد المفتوح وحيث يشكل التعامل الحر بين الأفراد الركيزة الأساسية لنشاط المجتمع وترجع جذور استخدامه للثورة الإيرلندية، وقد أوضحنا – الفقرات السابقة – التسلسل الزمني لأسلوب مقاطعة البضائع الإسرائيلية في فلسطين. لكن هذا الأسلوب لا يتناسب مع إسرائيل لأسباب عديدة أهمها أن الاقتصاد الإسرائيلي بني على ركيزة العمل العبري عبر مؤسسات الهستدروت التي حاولت جاهدة الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، كما أن مفهوم الأمن القومي في إسرائيل يتم تطبيقه بشكل صارم حيث أن هناك احتياطيا لكل ما يلزم إسرائيل من ماء وغذاء ووقود وحتى عملة صعبة لمدة تتجاوز سنتين، وهي تعلن حالة الاستنفار القصوى فور البدء باستخدام هذا الاحتياطي. ومن جانب آخر فلدى إسرائيل لوبي صهيوني منتشر في كافة دول العالم وهو يدافع عن مصالح إسرائيل بكل المحافل الاقتصادية والثقافية والسياسية، هاتان النقطتان لم تكونا متوفرتين للأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا. وفي دراسة غاندي لثورة جنوب إفريقيا قال إنها ثورة ملونة لها أمواج عالية أحياناً لكن عدوها محدود وغير قابل على التمدد بعكس الوضع البريطاني المتجذر بالاقتصاد الهندي، وقد تنجح ثورتنا بالهند قبل ثورة جنوب أفريقيا إلا أننا سنبقى تابعين للاقتصاد البريطاني لفترة طويلة، أما إذا انتصرت ثورة جنوب افريقيا فهي مؤهلة بسرعة لتكوين اقتصاد وطني مستقل.
ثالثا: ثورة على الثورة ولكن ليس بمفهوم ريجي دوبريه صاحب رسالة إعادة بناء الثورة من الداخل وإصلاح هيكل الثورة عبر تفعيل النقد والنقد الذاتي والمحاكم الثورية، بل من خلال التشهير بقيادة الثورة ووصفها أنها عميلة للاحتلال كما تفعل مجموعات دعم الثورة، وأمثلة ذلك كثيرة في إيرلندا وشمال إسبانيا وبعض دول افريقيا وأمريكا اللاتينية. حيث يتم استنزاف المجهود النضالي بمهاترات تدعو لإسقاط قيادة الثورة بل إن أكثر من نصف إعلام مجموعات دعم الثورة يكون ضد القيادة الثورية حتى تحسبهم عملاء للاحتلال. إن الهدف الحقيقي من تشويه صورة القيادة الثورية هو إيجاد حالة فراغ قيادي للشعب المضطهد مما يلزم قوى الاحتلال على تحمل مسؤولياته تجاه الشعب المضطهد، من خلال ممارسات أحادية الجانب، أي الانسحاب الإجباري للاحتلال نتيجة لكلفة تسيير أحوال الشعب المضطهد كما حدث بحالات استثنائية في زمن الاحتلال الفرنسي لبعض دول غرب أفريقيا. أما بخصوص الوضع الفلسطيني فالقضية مختلفة لأن إسقاط القيادة الفلسطينية يعني العودة إلي الوصاية العربية وفق الفهم الصهيوني، حيث أن احتلال الضفة الغربية ومنطقة القدس وقطاع غزة عام 1967 لم يسقط مسؤولية الدول العربية بدفع رواتب الموظفين وإدارة الشؤون المدنية للمناطق. ولحد الآن تشرف الحكومة الأردنية على الشؤون المدنية في منطقة القدس بما فيها المسجد الأقصى والخدمات الطبية والتعليمية لقرى منطقة القدس. إن الحديث عن عدم شرعية القيادة الفلسطينية يعني البحث عن خيار عربي لا عن تحمل الاحتلال تكاليف إدارة الشؤون المدنية لأنه لم يقدم أي خدمات للمواطنين عبر التاريخ.
رابعا: النخبة تناضل نيابة عن الشعب المضطهد في عكس مفهوم دور الطليعة الثورية الذي يسعى لتحفيز الشعب للانضمام لصفوف الثورة، فإن مجموعات دعم الثورة ترى أنها قادرة على صناعة النصر بدون الحاجة لتوسيع دائرتها الشعبية، فهي تطرح أفكاراً نرجسية بأنها ذات قدرة عالية على ضرب العدو ضربة قاضية وبعدها ينسحب من المناطق المحتلة. بهذا الخصوص يقول تشي جيفارا: إن فدائيي حرب العصابات قد يبدون مستقلين عن باقي أجزاء الثورة، لكنهم بالحقيقة زبدة هذه الثورة التي توفر لهم كل شيء من إمداد بالمعلومات ومن دعم إعلامي وكذلك قواعد ارتكاز وتموين وغيرها من هياكل الثورة، كما أن الباب مفتوح لجميع أبناء الثورة للانضمام إلى صفوف فدائيي حرب العصابات، كما أن أي فدائي بحرب العصابات يستطيع أن يطلب نقله لمهام أخرى دون النظر إليه على أنه يتهرب من تحمل مسؤولية حمل السلاح، ثورة أجزاء تتكامل مع بعضها والنصر عملية تراكمية لكل المجهود الثوري. أما ما تطرحه الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل فهو تحييد أغلب الشعب الفلسطيني والاكتفاء بالفلسطينيين المتواجدين بالدول الغربية المؤمنين بفكرتها- وبالتأكيد ليس كل فلسطينيي الدول الغربية يؤمنون بفكرها. إن هذا الأسلوب النضالي قد يكون جيدا كداعم للنضال المركزي في الوطن المحتل ومخيمات الشتات، لكن لا يمكن أن يكون الأسلوب الوحيد القادر على تحقيق النصر لانسلاخه المتعمد عن حيثيات الواقع اليومي للاحتلال وتحييده غالبية الشعب المضطهد.
خامساً: أنصار الشعب المضطهد من قبل القوى المحتلة يعتبر الركيزة الحقيقية لتفتيت الاحتلال ولا يوجد ثورة لم تحاول استمالة بعض أبناء القوى المحتلة لتناضل ضمن صفوفها، ولعل الشيوعيين الإسرائيليين انضموا للنضال الفلسطيني في بداية العشرينيات ضمن مفهوم المساواة بين المواطنين لكن ما تعتمد عليه الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل هم فئة تسمى بالعبري اليردي أي الهابطين للأسفل وهم بالأساس ولدوا داخل إسرائيل إلا أنهم هاجروا خارجها لعدم إيمانهم بفكرة أرض الميعاد. ورغم ذلك فإن الحركة الصهيونية تعمل جاهدة لإبعادهم عن أي نشاط معاد لإسرائيل وفكرة أرض الميعاد.
وفي المؤتمر الصهيوني الدولي السابع والثلاثين الذي أشرنا إليه أعلاه، صدر قرار رقم 19- إنشاء معهد للتعليم الصهيوني (حيث  أن التعليم الصهيوني هو اللبنة الأساسية للحركة الصهيونية و ضروري لتأمين مستقبلها و تعزيز أهدافها، في حين أن العديد من الدراسات تشير إلى زيادة الابتعاد عن أهمية فكرة دولة إسرائيل بين جزء من جيل الشباب اليهودي أكثر من أي وقت مضى، وحيث أن  شبابنا اليهودي يشكل العصب الأساسي  المؤهل لدحض حملات شرسة لنزع شرعية وجودها من القوى المتطرفة  وكذلك حملات (الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل BDS ) التي تشن ضد إسرائيل، حيث أن هذه الحملات تسبب نقصا خطيرا في أساس تطور الفكرة الصهيونية حتى بين الدائرة الطبيعية بين أبناء الجاليات اليهودية في العالم والأنصار الأزليين للفكر الصهيوني، حيث أن المعلمين اليهود يشيرون إلى تزايد التحديات في المؤسسات التعليمية الإسرائيلية بسبب النزعات اليهودية الداخلية، فلا يوجد في الوقت الحاضر أي عنوان لمنشأة في إطار المؤسسات الإسرائيلية لمعالجة الاحتياجات الحقيقية والملحة في مجال التعليم الصهيوني، بما في ذلك التطوير المهني، وتطوير المناهج الدراسية، والدعم المهني والبحوث، فإن المؤتمر الصهيوني السابع والثلاثين يقرر: أن المنظمة الصهيونية العالمية ستؤسس معهدا للتعليم الصهيوني على أن يرأسه عضو في اللجنة التنفيذية الصهيونية ويكون مسؤولا عن منهاجه وهيكليته، وسيُبنى المعهد في مجمعنا بالقدس الذي يشمل على متحف هرتزل والمركز التربوي الصهيوني، تمت إقامة العديد من ورشات العمل بهذا الخصوص في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا، كما قامت  منظمة "العدل والإنصاف" في إسرائيل باستضافة  45 محاميا صهيونيا بغرض تعريفهم على مخاطر الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل وضرورة اتخاذ الإجراءات القانونية لمنع نشاطاتها كما حدث في بعض الدول الغربية. وكذلك ضرورة تفعيل اللوبي الصهيوني في الجامعات والمؤسسات الثقافية واحتضان مجموعة اليردي ضمن مؤسسات الجاليات اليهودية وعدم معاملتهم بأساليب معادية، إلا أن هذا لا يعني أن جميع اليهود المعادين للصهيونية هم جزء من الحملة الدولية للمقاطعة، بل إن الغالبية العظمى منهم مقربة من التنظيمات الفلسطينية وخاص اليسار الفلسطيني، ومن جانب آخر فهم لا يشكلون قوى ضاغطة داخل مجتمعاتهم بل أغلبيتهم منبوذة من قبل الجاليات اليهودية ذات النفوذ السياسي والاقتصادي بالدول الغربية.
سادساً: استخدام الأسلوب الحتمي والوحيد لإنهاء الاحتلال هو مقاطعة إسرائيل، ولعلنا بالثورة الفلسطينية منذ البدايات ناقشنا قضية الأسلوب الحتمي والوحيد كفكرة مجردة ثم جاءت فكرة الكفاح المسلح لتحتل مساحة واسعة من الأساليب النضالية حتى إن البعض اعتبرها الأسلوب الحتمي والوحيد، لكن الثورة أجزاء تتكامل – كما شرحناها سابقاً- فجاءت مؤسسات الثورة لتوفر البنى التحية للكفاح المسلح من إعلام وتموين وتخطيط وحتى وصلنا لضرورة الموازنة بين النضال السياسي والنضال العسكري، ثم دخلت الثورة مفاهيم الجيوسياسية التي ميّزت بين مناضل فلسطيني بدول الخليج العربي وآخر بألمانيا وبين من هم في مخيمات الشتات ومن هم في الأرض المحتلة. هذا التشتت لأبناء الشعب الفلسطيني أضاف ميزة الخيارات المفتوحة للثورة وجعل أساليبها النضالية تتلون بأشكال تتناسب وأماكن تواجد الفلسطينيين. إن مجرد العودة لفكرة الخيار الوحيد وهو إسقاط لأدوات نضالية وتحييد لفئات ثورية يهدف إلى إضعاف الثورة وإرهاق الأسلوب الوحيد الذي سيتأثر سلباً بسبب أن العدو سيركز عليه في الوقت الذي لن يكون له أساليب داعمة من قبل الثورة. ومن الملاحظ أن حملة المقاطعة لإسرائيل أثرت سلباً على أعداد نشطاء السلام في قرى الجدار وكذلك على التغطية الإعلامية للفعاليات في الوطن في وسائل الإعلام المؤيدة للقضية الفلسطينية بالدول الغربية، إن تقليل أهمية النضال داخل الأرض المحتلة لنشطاء السلام الدوليين يعتبر كارثة حقيقية بحق النضال السلمي لشعبنا.
قد يكون النضال الفلسطيني يمر بمرحلة صعبة بسبب ظروف داخلية أساسها الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس وثانياً الظرف العربي غير المؤهل لدعم تصعيد مطالب القيادة الفلسطينية بالإضافة إلى تصاعد قوة التيارات الدينية اليمينية في إسرائيل، إلا أن الشعب الفلسطيني يرى الأفق بوضوح ويرى أن نضالنا الفلسطيني مازال بحاجة لكافة طاقات الشعب الفلسطيني وأنصار الحق الفلسطيني في العالم، ولهذا سنستمر بتلوين أساليبنا النضالية حتى نحقق النصر وندحر الاحتلال بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.