خاص مجلة "القدس" العدد -315- تحقيق : غادة أسعد
سهام منصور جريس جمّال- منسّى، المولودة في عكا، يوم 27/12/1938، عايشت النكبة، بذاكرة طفلة في التاسعة من عمرها، وفي أيار 1948، سمعت من والديها وشوشات، لم تفقه مضمونها، لكنها عرفت أنّ شيئًا كبيرًا يحدُث، وأنّ "فألاً" سيئًا يدُب في المكان الذي التصقت به منذ ولادتها، وبدأت تتطلّع إلى الأشياء فتراها كبيرة- أكبر منها بكثير. عرفت لاحقًا أنّ بيتًا لها في عكا الجديدة، هُجّرت عائلتها مِنه، ليستوليَ عليه غرباءٌ فيحوّلوهُ إلى حدائق للحيوانات، أو مجمّعًا للجرذان والحشرات الزاحفة، ظلّ حلمها أن تعود إليه حتى استعادته بعد أكثر من 20 عامًا، وقررت أنها لن تخرُج مِنه ما دامَ في قلبها نبضٌ وحبٌ لعكا.
التقيتُها في بيتها في عكا، بيتٌ عربي، أرضٌ واسعة، مزروعة بالحمضيات، في الداخل صُوَر العائلة، صورةُ عكا، ببحرها وبيوتها، وصورة أخرى لجوامعها، ساعة تاريخية كبيرة ورثتها عن عائلتها، صورة الأحفاد، وكل ما في المكان يدلُ على صاحبته، سهام منسّى، تتقن الأشغال اليدوية، والتطريز، تحتفظ بتفاصيل صغيرة في بيتٍ كبير، وذكريات لا يُمكن المرور عنها سريعًا، فهناك مُتسعٌ مِن الوقتِ لنُنعش الذاكرة بحياةٍ فيها مِن الحُلوِ والـمُرِّ الكثير.
البيت في عكا الجديدة
"والدتي رحمها الله من البصة، كان لها بيت آخر في حيفا، في قريتها التي تقارب الحدود اللبنانية. كان العيشُ ومصدرُ الرزق في جمع الزيتون والدخان، وكانت جدتي تشقى لإعالة أبنائها. أما أبي فعكاويُ الأصل، توفي في العام (1966) عن 62 عامًا. وُلد في بيتنا 7 أشقاء، واثنان ولدا بعد الاحتلال في عكا القديمة. ساهم أبي في تأسيس الكشاف الأورثوذكسي في عكا، إلى جانب سريّة نادي أسامة الإسلامي، وكانت السريّتان مشهورتان، يحضر إليهما المندوب السامي وشخصيات سياسية أخرى، وكانت تتم دعوة أبي والسريّتين الكشفيتين مِن شخصيات معروفة، فعندما أنجبت زوجة الملك فاروق في مصر، دُعِينا حيثُ أُرسِل قطار يتّسع للسرية، ودعانا الملك عبد الله والد الملك حسين، إذ استقبل السريتين في الأردن"، تقول سهام.
على أعتاب النكبة
وتتابع "9 سنوات ونصف، كان عُمري يوم النكبة..كطفلة صغيرة، صرتُ أسمعُ أصواتًا، لا أفهمها، طريق شارع بيروت (شارع الأربعة لاحقًا)، على مقربة منه قتل أربعة من اليهود، قلقٌ طفولي مشحون بالخوف، والالتصاق بالوالدة، خوف في عيون الجيران، وبالكاد استوعَبَ عقلي حفظ تفاصيل ما كنتُ أسمعه من والديّ، عن أحداثٍ جرت في حيفا قبل ثلاثة أشهر، من مناوشات عكا، لاحقًا بدأتُ أستوعِب أنها شيءٌ كبير، (حربٌ) وأنّ حيفا سقطت، وعكا، وسمِعتُ في البيت أحاديث عن هرب أعمامي وعماتي، إلى لبنان، في أيار 1948، أما أبي فرفض الانضمام إليهم، رغمَ أنّ شقيقتي كيتي (16 عامًا في العام 1948)، التحقت بأقاربي مع أصدقاء لنا من عكا (الياس طوبي، زوج الأديبة أسماء طوبي)، وبعد أكثر من سنتين، تقدّم أبي بطلب لم الشمل، فعادت "كاترينا- كيتي"، إلى حضن العائلة. واستكفى أبي بمقولته المحفورة في ذاكرتي: "من عكا ما بطلَع، طيّب أو ميّت".
تقول سهام: "لم تكن عكا مُسالِمة، كما وصفها البعض، بل قادت معارك دارت رحاها في زوايا المدينة، قرب المقابر الإسلامية والمسيحية، وعند حديقة البلدية، قُتِل كثيرون في المعارك.
وأخذ سكان عكا ينزحون عنها بسرعة عبر الطريق البرية والبحر، حتى لم يبقَ منهم ومن لاجئي حيفا سوى سبعة آلاف. وزاد اليهود ضغطهم على المدينة بتلويث مياه نبع الكابري بجراثيم التيفوئيد، ووقع على عاتق اللجنة القومية مهمة إضافية هي محاولة تأمين العلاج بالإضافة الى الطعام والمياه الذي بدأ ينضب، وأخذت وفود المدينة تطرق الأبواب في محاولة للحصول على سلاح، لكن دون جدوى، لذا قرر سكان المدينة الدفاع عنها بإمكاناتهم. وفي ساعة مبكرة من صباح 15/5/1948 شنّ مناضلو عكا هجوماً على الصهاينة الذين تسربوا لأحياء المدينة، وسقط عدد من الشهداء، كما قُتل 60 عسكريًا من الهاغاناة".
وأردفت "انسحبت عائلتي، من بيتها في عكا الجديدة بأمرٍ من الجيوش اليهودية الـمُستقرة في كل زاوية بعكا، والتي اتخذت مركز الشرطة قاعدة لها، وقتلوا جارنا، وعائلة كاملة بينهم أطفال، لأنهم لم ينصاعوا للأوامر. وعند ساعات المساء، بينما كنتُ ألهو، عند عتبة البيت، إذ برصاصة تخترق شجرة "الأراصيا" القريبة مني، صرخ أبي، لم أسمعه من قبل يصرخ بهذه الحدة، لملمنا بعضنا، وخرجنا من البيت ملتصقين بالوالدة، وعلى كتفيّ شقيقتي أحد أشقائي الصغار، كان مريضًا بحمّى التيفوئيد، وفي الطريق، التقط عجوز عكاوي الطفل من بين يدي شقيقتي ووضعه على الحمار، وأسرع به، بعد أن تأكد من حرارته العالية، وذهبنا خلفه مسرعين، خوفًا من شيءٍ ما، بينما تخلّف عنا الوالد لإسعاف أحد الرجال الذين سقطوا في الشارع العام.
تجمّعنا في الدير، (قرب ساحة عبود)، وافترشنا الأرض بالعرض، ليتسع المكان للأطفال، والتم الفلسطينيون من كل حدٍ وصوب، من شفاعمرو، الناصرة، يافا، الرامة، كفر ياسيف، كنا في الأديرة والكنائس، وأكلنا الخبز المحمّص المحلّى بالسكر".
وتتابع "عشنا حياة صعبة جدًا، كان التجول ممنوعًا بعد السادسة إلا ربع، وفي النهاية استسلمت رجالات عكا بعد سقوط المدينة. فهمتُ أنّ أمي عادت إلى البيت بعد أن مُنحت العائلة مهلة ربع ساعة، للاطمئنان على بيتنا في عكا الجديدة، ذهبَت وأحضرت المؤن: "اللبنة والزعتر وأشياء أخرى، وأغلقت أبواب الجيران، وبيتها، وعادت بسرعة، كي لا تخترق منع التجوّل. بعدها طالبوا أهالي المدينة بجمع السلاح، وكانت هنالك أمانة مِن أحد الأعمام بحوزة الوالد، فطلب من شقيقي ومني، أن نذهب لنلقي شيئًا ما في البحر، فهمنا لاحقًا أنّها أسلحة ممنوعة".
وحين احتُلت عكا، سُمح لنا بترك الدير، والبحث عن مكانٍ آخر، ورفضت الوالدة العيش في بيتٍ عربي، إذ كانت متأكدة أنّ الأسبوعين سيمران بسرعة، ويعود أصحاب البيت إلى ديارهم، فاختار والدي، مقرًا كان للكشاف الأورثوذكسي، وفي منتصف الليل، بعد أن رتبنا مكان نومنا، سمعنا طرقًا على الباب الرئيس، عرفنا أنهم ثلاثة آباء يطلبون منا إخلاء المكان، لأنّ المستشفى القريب لم يعد يتّسع للمرضى، ولأنّنا ممنوعون من خرق أوامر التنقُل، توجّه الأطباء إلى الهاغاناة، على اعتبار أنّ الأطباء يحملون شارة الصليب الأحمر، فرافقتنا الهاجاناة إلى مدرسة الحكومة (على اسم المرحوم أبو سري)، ثم نُقلنا إلى مدرسة الروم بعد أسبوعين.
أبي كان صائغًا، لكنه بعد النكبة لم يجد عملاً، فعمل في قطف الزيتون، ومقابل سلة الزيتون كان يحصل على ليرة ونصف، علمًا أنه عمل أيضًا في فلسطين، قبل النكبة، عاملاً في البدالة الهاتفية، على خط حيفا حتى الزيب، امتدادًا إلى كريات حاييم وموتسكين ونهاريا والمنشية والنعامين".
استعادة بيتي كُرمَى لوالدي
"في العام 1972، توجهتُ إلى أصحاب بيتنا في عكا الجديدة، وكان من المفترض أن أشتريه بعد زواجي، وبدلاً من دفع مبلغ 16 ألف شيكل، دفعت 27 ألف شيكل، لأنه كان مطمعًا لتحويله إلى مجموعة رياض أطفال تابعة للبلدية، أو مكان للصلاة، وقربه كنيس لليهود، وهكذا عدتُ إلى مسقط رأسي. وفي كل مناسبة كنتُ أجمع باقة من شجر الليمون، والزيتون، والزهور، أضمّمها، وأقدمها هديةً على قبر والدي، كي يطمئن أنّ بيته عاد إليه.
عملتُ معلمّة في عكا على مدار 30 عامًا، رغم أنني لم أحصل على شهادة جامعية، تعلمت بشكلٍ فردي، وكنتُ أسافر إلى حيفا للحصول على دروسٍ في الفرنسية، كنتُ أتعب لكنني أمضيت وقتًا سعيدًا، أما أشقائي وشقيقاتي فقد تنقلوا بين المدارس والتعليم الخاص، وحين كبروا وشارفوا على التعليم الجامعي، انتقلوا إلى حضن الأقارب في ألمانيا ومن ثم إلى أمريكا، لمتابعة تحصيلهم العلمي".
تقول سهام جمّال منسى: "عكا قطعةٌ من القلب، كما قال درويش – توجعني وأعبدها"، ولها ماضٍ عريق وجذور عميقة في الأرض، ومؤلمٌ ما يجري فيها من محاولات تهجير، وإضعاف للناس، وحرمانهم من العيشِ بكرامة، ومساومتهم على لقمة العيش وقطعة الأرض، ما يضطر الفقراء للقبول بالعروض عالية السعر، وبيع بيوتهم، وأخشى يوم تُفتح جميع البيوت، ويكون جميع الفلسطينيين في عكا القديمة قد فارقوها، واستوطن الغرباء في قلبِ المدينة التاريخية الجميلة". وبسبب تخاذل البعض تحوّلت عكا إلى فنادق لا تمّت بصلة للجمال المعماري الفلسطيني، شكله لا يشبه عكا، ولا يتناسب مع المكان. مؤسفٌ ما يجري، وما زالت الغصّة في قلبي، وحزن يخيم على مشاعري، كلما التقت عيوني بعيون والدي الراحل، عبر بوابة القلب، لكنّ عزائي في عكا، أنها حُبي، فكل حجرٍ هنا له تاريخ ومكان عزيز في الصميم، اليوم يغيرون أسماء الشوارع والحارات، ويحرّفون التاريخ، لكن مهما غيّروا ستبقى عكا أم الدنيا. أم الغريب، وأم الملوك، عكا ماؤها عزيزة، وهواؤها يرد الروح، وليس غريبًا أن يحلف أهلها "وحياة غربتي"، فمن يطأ أرض عكا، يصبح من أهلها".