محمد سعيــد  

أحتاج الى مخيم يبتسم كلما ظهر وجهه في قلبي، أحتاج أن أرى مخيم اليرموك من ألفه إلى يائه، كيف كان، كيف أصبح، هل فعلاً هو ما نراه. أفتح عيني على ليله الطويل لأستعيد ايقاعه اليومي على نبض مواسم الحصاد وايقاع السنابل في القلوب، فلا أجد إلا قصائد تنكفئ وروح تبحث عن ذاتها. لا أستطيع أن أرى جمراً يحرقه كلما نظرت اليه، إننا هناك، هناك الذي أخذ في طريقه صفحات لا يستطيع أن يقرأها أحد إلا ويدوخ، نصف الكلمات واضح ونصفها يغرس أنيابه في المستحيل. كم مخيماً مات من العطش والجوع والحقد والحصار؟ ها هو اليرموك الذي كان ملجأ يغازل المشرّدين والمقهورين أصبح في لحظات موّرطاً في عنف سوداوي يتضخم بقسوة حتى أصبح مقروءاً بألوان الموت والرحيل.
بالأمس كان المخيم جميلاً. لن يعود الاقحوان ينبت على طريقه بسبب دبابة تقف في قلبه، صور الشهداء لم تعد على الجدران، انهارت الاحلام فوق أكوام البنايات، لا تأشيرات للخروج ولا مراكب ولا شجرة حتى للنوم تحتها. الطعام مفقود، والكلام مفقود والحب مفقود. لا يوجد الا الحرب وهي أكثر ثباتاً من التصريحات والكتابة والحياة والصمت والظلام، المخيم لا يستطيع الحركة، الحصار داخل المشاعر والابتسامة والوجع والوسادة والآمال، لا أحد يقدر أن يبقى أو أن لا يبقى، لا أحد يرى شمس الغروب وهي تسحب وجوه الاطفال الى دفتر البحر. في قلب المخيم ألم وأكثر، المخيم ينام في حضن الصياد، فقد طريق العودة في منتصف الاوهام الشاحبة، شائعات تصلب عظمه معظم الوقت، اليرموك ولد الى جانب الحياة على سرير من حشب الشوارع.
يطلقون النار عليه كل يوم كأنهم يقدمون له كعك العيد، ذهب الناس الى المجمعات في المدن المهجورة التي ضربها الذعر، هرب الناس وتركوا البيوت تبكي أرق الوجود، لم يفكر أحد بالاولاد الذين سيسعلون في الليالي الجرداء، لم يفكر أحد بالعجائز الذين حملوا أوزار الحروب والتواريخ المعفرة بالافكار المزعجة على صفحات المنافي. اليرموك الذي كان قلب الحياة والشفق المبتهج بأصوات العائدين الى الارض والخصب، أصبح غامضا معزولاً مأسوراً في ثلاثة حروف "حرب"، في كل حرب تحوّل المخيمات الى مقبرة، لا أحد يريد لنا شرفة، لا أحد يريد لنا أرضا نحيا عليها. تختفي النزاعات وتنتهي الحروب وتخضرّ المزارع ما عدا بيادرنا تظل يابسة، ماذا يفعل الغرباء في اليرموك غير قتل الهواء بزخات الرصاص؟ وإثارة الغبار في وجه الشمس حتى يتكاثر الدخان ويحجب الرؤية عن عيون الخائفين؟ وعندما يحين موعد المغادرة ماذا سيفعلون غير تركه للخرافات والزواحف والنمل لكي يعشعش في بيوت الغائبين. ما أقسى أن تسمع أن الأطفال ماتوا من الجوع في المخيم، ما أقسى أن ترى عجوزاً يئنّ من الجوع، ما أقسى أن تعرف أن شخصاً قُتل بلا سبب، ماذا يفعل الكلام بالنظر الى هذا السديم؟ ماذا تفعل الاحلام التي تدهسها دبابة؟ أصبحت عاصمة الشتات محتلة ومدمرة ومهجورة، الاّ من قلة آثاروا البقاء على الرحيل، لم يبق شيء، لم يبق شيء.
لا جدوى لما تنظر اليه، فالمياه راكدة من المحيط الى الخليج، والقلوب متحجرة، آن الاوان ان نذهب الى مركب صغير ونغطي أولادنا بقماش الاغاني في بحيرة صبرنا. رؤيتي لليرموك في موطن الحصار والسلاح والمعارك والقذائف أثارت دوامة الحزن المقلقة، حيث الظلام يلف جنباته، والسكون المخيف يتجمع على سطح حروفه المتناثرة كغربان. في مخيم اليرموك الوجوه غامضة ومتربة. وقفتُ اراقب المخيم من بعيد، كان يهرب مني الى العنف والذكريات والدموع المتحجرة، لم يكن وجودي يحتاج الى ذريعة للشفاء منه، لا معنى لأن تكون شيئا لا معنى له، لا يجرؤ النهار على التحرك، ولا يمكن لأحد أن يضع وسادة في زاوية الغرفة وينام، ولا يمكن لطفل أن يقهقه بعد الاستمتاع في حلم جميل. كل الخطوات بلا مكان، لا أرى ضوءا في الوجود لكي أفتح نافذة الامل.