تميَّز الخطاب التاريخي للرئيس أبو مازن الذي ألقاه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالصفات التالية: أولاً إجراء المراجعة النقدية، وثانياً وضع الآلية المطلوبة لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي، وثالثاً تداعيات العدوان على قطاع غزة وآثاره المدمرة وأسلوب المعالجة.
لقد مثّلت عملية إجراء المراجعة النقدية لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني قمة الجرأة والموضوعية والواقعية لأنها جاءت بعد تطورات خطيرة سياسية وعسكرية شهدتها الساحة الفلسطينية مؤخراً، ولعل أبرزها العدوان الذي بدأ على الضفة الغربية والقدس، ثم الانتقال الى قطاع غزة، وممارسة أقسى أشكال الجريمة، والفاشية، والتدمير، والابادة البشرية. وقد توقف الرئيس أبو مازن كما القيادة الفلسطينية مطولاً في الجلسات الأخيرة القيادية أمام المسيرة السياسية، والتدقيق في المواقف، ولعلَّ أبرز هذه المواقف:
أ-إعداد مشروع قرار سياسي يتم تقديمه إلى مجلس الأمن يضع سقفاً زمنياً محدداً لانهاء الاحتلال من الاراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك الشهر القادم حيث ستكون البرازيل رئيسة مجلس الأمن. ويأتي هذا رغم معارضة الولايات المتحدة لهذه الخطوة الفلسطينية، وهي تعتبر ما يقوم به الرئيس أبو مازن مخيِّباً لآمال الولايات المتحدة. الرئيس أبو مازن يدرك تماماً أهمية العلاقة الاستراتيجية الاميركية الاسرائيلية، وبالتالي فإن واشنطن معنية بأمن إسرائيل، وتسليحها، وحمايتها دبلوماسياً وسياسياً، وإفشال كافة القرارات المقدمة إلى مجلس الأمن سواء أكان ذلك قبل تقديمها إلى مجلس الأمن حيث يتم إجهاضها بضغوط أميركية علنية، أم بعد تقديمها حيث الفيتو ينتظرها. والجديد هنا أن القيادة الفلسطينية لم تعد مقتنعة بالرعاية الاميركية للمفاوضات حول الحلول السياسية المطلوبة لإنصاف الشعب الفلسطيني.
ب-إنطلاقاً من هذه النقطة الأولى نستطيع القول أنَّ هناك نقلة جديدة باتجاه الامم المتحدة، وأنه آن الأوان أن تُنقل ملفات القضية الفلسطينية إلى طاولة الامم المتحدة، ومطالبة المجتمع الدولي بكل مؤسساته وهيئاته أن يمارس دوره المطلوب في إلزام إسرائيل بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وبالتالي فإنّه لا يمكن أن يتواصل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ويتجاهل كافة النداءات، والقرارات، والوقائع الميدانية التي باتت تحمل مؤشرات خطيرة بسبب استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان والتهويد.
ج-إنَّ المفاوضات التي جرت في المرحلة السابقة لم تكن مثمرة وهي التي جرت برعاية أميركية، لكن هذه المفاوضات كانت تخضع لموازين القوى الواقعية، وقد فشلت بشكل عام لأن الولايات المتحدة كانت طرفاً مسانداً للكيان الاسرائيلي تمارس الضغط على الفلسطينيين لكنها لم تمارس أية ضغوطات على الجانب الاسرائيلي، وإنما كانت تبحث له عن مبررات، وتصنع له الغطاء السياسي والدبلوماسي كي يُواصل الاستيطان والتهويد من جهة والعدوان والمجازر من جهة ثانية.
لهذا السبب فإن الرئيس أبو مازن غادر مربَّع المفاوضات السابقة لأن الاحتلال الاسرائيلي كان يتحكم بها، ويضع لها شروطها المسبقة التي تفرغها من مضمونها، ويصرُّ على مواصلة الاستيطان والتهويد علناً وبشكل ممنهج وفي إطار خطة محكمة لسرقة الاراضي الفلسطينية، ومع سرقة الاراضي كانت تتم أيضاً عمليات الاغتيال براً وجواً وبحراً، وهذا يعني تفريغ المفاوضات من مضمونها، وبالتالي إثارة النقمة الشعبية على الوفد الفلسطيني وإتهامه بالتفريط والخيانة.
من هنا كانت الوقفة القيادية في شهر نيسان السابق من هذا العام حيث أصرت على أنه لا مفاوضات إلاّ إذا التزمت إسرائيل بالإفراج عن الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، وتوقفت المفاوضات يومها وما زالت حتى الآن، وأخذ العالم بأسره علماً بأنّ من أوقف المفاوضات هو الاحتلال الاسرائيلي، وهذا ما جعل الكيان الاسرائيلي يعيش أزمة سياسية فعلية لم يستطع الهروب منها، هذه كانت المحطة ما قبل الأخيرة، والقيادة الفلسطينية أخذت قرارها النهائي "من المستحيل العودة إلى دوامة مفاوضات تعجز عن التعامل مع القضية الفلسطينية." وهذا يعني أن المفاوضات إذا ما تمت مستقبلاً فهي ستقوم على مجموعة ركائز أساسية وهي:
1-الالتزام بقرارات الشرعية الدولية كمرجعية للمفاوضات.
2-يجب أن يكون هناك سقف زمني محدد لأية مفاوضات.
3-يجب وقف الاستيطان في كافة الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وخاصة في القدس لأنه لا يمكن الجمع بين المفاوضات والاستيطان.
4-على الكيان الاسرائيلي أن يقوم بتحديد حدوده استناداً إلى قرار الشرعية الدولية المتعلق بالدولة الفلسطينية والتي هي عضو مراقب تحت الاحتلال، وتحديد حدود الدولتين يحسم معظم القضايا الجوهرية وهي قضايا المرحلة النهائية خاصة موضوع الاستيطان، والقدس، والحدود، والمياه.
القيادة الفلسطينية لن تقبل بمفاوضات من أجل المفاوضات، وانما يجب أن ترتبط المفاوضات ببرنامج محدد لإزالة الاحتلال.
د- إنَّ موضوع المقاومة أيضاً خضع لنوع من المراجعة فبعد التصعيد العدواني الاجرامي الصهيوني، وشن حرب إبادة بشرية طالت كافة مكونات المجتمع الفلسطيني، وتعمَّدت إغراق قطاع غزة في بحر من الدماء، والدمار، والتشريد، والتجويع، والحصار، وبعد المجزرة التي ارتكبها المستوطنون بحق الطفل محمد حسين أبو خضير حيث أحرقوه حياً ثم قتلوه، هذه المؤشرات الخطيرة دفعت الأمور والعلاقات باتجاه الهاوية واصبح المطلوب رسم استراتيجيات جديدة عسكرياً وسياسياً تتلاءم مع التطورات، لذلك جاء التركيز على تصعيد المقاومة بوجه الاحتلال، وضرورة استنهاض الطاقات الشعبية، وحماية القرى والاحياء من إعتداءات المستوطنين، وبالتالي التذكير والتأكيد على تمسكنا بحقنا في المقاومة وهذا حق مشروع قررته الشرعية الدولية.
لقد وجَّه الرئيس أبو مازن السؤال الصعب: " أما آن لهذا التيه الطويل أن يصل إلى محطته الأخيرة"؟؟
بالتالي ألا يحق للشعب الفلسطيني بعد مرور ست وستين سنة من النكبة والتشرد والعذاب أن يطالب العالم باعتماد قرار يكون منصفاً لشعبنا كي ينال حريته واستقلاله أسوة بباقي شعوب العالم؟
أليس من حقنا أن نخاطب مجلس الأمن الذي منح الاستقلال لكل شعوب العالم، وأعطى حق الحماية للشعوب المضطهدة أن يتعاطى مع شعبنا الفلسطيني بالمعايير ذاتها؟ أليس من حقنا أن نطلب آلية واضحة لمعالجة معاناة الشعب الفلسطيني والوصول إلى حل نهائي يقوم على إنهاء الاحتلال الاسرائيلي، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إنَّ القيادة الفلسطينية بالوضوح الذي لمسناه في خطاب الرئيس أبو مازن وسَّع وعمَّق جبهة المواجهة سياسياً وميدانياً مع الاحتلال الاسرائيلي. فمن جهة ستطلب القيادة قريباً الانضمام إلى كافة المؤسسات والهيئات الدولية. وقريباً جداً سيكون الانضمام إلى ميثاق روما ثم المحكمة الجنائية الدولية.
وفي إطار الآلية والمراجعة والمواجهة فإن القيادة ستعيد النظر في وظائف السلطة الوطنية التي وجدت أصلاً في إطار تعاقدي بين م.ت.ف، والحكومة الاسرائيلية، وكل واحدة منهما اعترفت بالآخرى، ومهمة السلطة هي مرحلة إنتقالية من سلطة إلى دولة مستقلة، وتنتهي هذه المهمة السياسية في العام 1999، والاحتلال الاسرائيلي هو الذي عطَّل العمل باتفاق أوسلو، وشلَّ عمل السلطة، لأنه لا يريد الوصول إلى إعطاء الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، والتي أقرتها الشرعية الدولية، ولهذا السبب فإن القيادة الفلسطينية اكَّدت بأنها ستعيد النظر بما يتعلق بدور السلطة الوطنية حتى لا تكون سلطةً بدون سلطة، أي سلطة تخدم الاحتلال وتعفيه من مسؤولياته.
من الواضح أن القيادة لن تحل السلطة بنفسها لأن هناك مؤسسات بنتها القيادة هي ملك للشعب الفلسطيني، وهي مهمة جداً وثمرة نضال الشعب الفلسطيني، لكن المطلوب الاستفادة من السلطة ومن أوسلو بما يخدم شعبنا، ورفْض كافة الصيغ التي لا تخدم شعبنا، والأهم هو تصعيد المقاومة الشعبية وتهيئة المجتمع الفلسطيني لخوض معركة دحر الاحتلال ونيل الاستقلال، وأن نسعى دائماً لمنع عدونا من جرنا إلى المربع العسكري الذي يريده هو حتى يأخذ الفرصة لتدمير كل ما بنيناه.
إنَّ المعركة القادمة المبنية على المصالحة الوطنية الصادقة قادرة على إحداث التغييرات الجذرية في الصراع مع الاحتلال، وتفعيل هذا الصراع على جبهات المقاومة والمؤسسات الدولية، والعمل الدبلوماسي والسياسي والقانوني من أجل وضع العدو الاسرائيلي في قفص الاتهام، ومحاسبته على ما ارتكبه من جرائم.  
ليس مُستهجناً بعد هذه المراجعة الوطنية النقدية أن يخرج علينا ليبرمان ليقول: " علينا أن ندرك الآن بأن أبو مازن غير شريك للسلام"، أما نتنياهو فوصف خطاب الرئيس أبو مازن بأنه: " خطاب تحريضي مليء بالأكاذيب، وان هذه الاقوال لا تليق بمن يسعى إلى السلام.  أما الولايات المتحدة فقد اختارت أن تصف الخطاب بالقول: "إن أقوال عباس هجومية ومخيِّبة للآمال".
ورداً على كل ما قيل نؤكد بأن الرئيس أبو مازن يأخذ شرعيته من شعبه، وهو يعبر عن الارادة الوطنية التي يمثلها كفاح الشعب الفلسطيني.