تغشاني موجة قوية من التشاؤم بشأن المصالحة الفلسطينية، التي كنت أشك في موضوعية ومصداقية إعلانها في الثالث والعشرين من نيسان الماضي عبر الاتفاق الذي أطلق عليه اسم "اتفاق مخيم الشاطئ" وكنت أعتقد أن السرعة التي ذهبت بها حركة حماس إلى الاتفاق يثير الريبة، ثم اكتشفت بعد مراجعة نصوص الاتفاق أن حماس قالت نعم بشفتيها وقالت ألف لا بأفعالها ونواياها، وزاد من تشاؤمي الطريقة التي تصرفت بها حركة حماس منذ اختطاف المستوطنين الثلاثة في الخليل وصولاً إلى الحرب التي نفذتها إسرائيل ضد قطاع غزة، ثم طريقة حماس في العمل التي اتبعتها بعد الحرب، وخاصة بعد عودة فريق الدعاية الانقسامية المعروف المكون من محمود الزهار، ويحيى موسى العبادسة وصلاح البردويل ومشير المصري، فهؤلاء ومعهم شلة كبيرة حين تفلتهم حماس على وسائل إعلامها أو الإعلام المطبل لها، تكون قد أضمرت النوايا السيئة، وهذا ما كان فعلاً، ولعلي أعود إلى موضوع المصالحة وما نتعرض له من عداء مطلق على يد حماس في مقال آخر.
ولكنني آثرت في هذا المقال إن أضيء ذاكرة طيبة وأرسل تحية مخلصة إلى روح الفقيد الكبير فتحوياً وفلسطينياً ولبنانياً وعربياً وإسلامياً، وهو الصديق العلامة والفدائي والكاتب والمفكر هاني فحص، ولقب " السيد عند اخوتنا الشيعة عرباً وعجماً يعني أن حامل هذا اللقب ينتمي في أنسابه إلى آل البيت وهم أبناء علي "كرم الله وجهه" من فاطمة الزهراء "رضي الله عنها" ابنة سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم.
لقد التقيت هاني فحص وهو من قرية جبشيت في جنوب لبنان في أوائل السبعينات، حين كنت مفوضاً سياسياً لقواتنا الفلسطينية في جنوب لبنان، في القاطع الشرقي الذي يطلق عليه اسم "العرقوب" وقد رأيته في هيئات متعددة، مرة وهو يرتدي العمامة السوداء والجبة كرجل دين وطالب علم ديني، ومرة يرتدي ملابس عادية، وأخرى وهو يرتدي زي الفدائيين المقاتلين، الزي الكاكي المرقط، والحقيقة أن ذلك الزمن، منتصف السبعينات، كان زمن الحلم والثورة، الثورة الفلسطينية التي كانت عنوان الثورة العربية الإسلامية والعالمية، وكانت جمهورية الفاكهاني في بيروت "مقر ياسر عرفات وبعض مراكز القيادة الفلسطينية" التي لا تزيد عن مساحة قبضة اليد، تتسع لكل الطموحات، ومشروعية الحلم، والرغبة الجامحة لدى أمة في تسجيل اسمها في كشف الحضور، كانت جمهورية الفاكهاني عاصمة الثوار العرب والمسلمين، فقد كنت ترى في مقراتها، ومراكزها، ومعسكراتها طيوراً نادرة من كل مكان، من مصر وسوريا والعراق والأردن، من البحرين وليبيا ومن المغرب وإيران وباكستان، ومن اليمن وأريتريا ومن السودان وتونس وموريتانيا، من الكويت وقطر، من الجزائر منجبة الثورات جميعاً، ومن السعودية، ومن بقية جهات الأرض الأربع، فقد كانت فلسطين تحمل بيديها المبدعتين علم الثورة العالمية، وكان عشاق الثورة كلهم هناك، مقاتلون، مفكرون من الطبقة الأولى، شعراء ومبدعون من كل الأنواع، أما اللبنانيون فحدث ولا حرج، فهم أصحاب الأرض التي استضافت الثورة، وهي سادة الأحزاب على اختلاف أنواعها، وهم مدد الفصائل الفلسطينية، وهم في صفوف حركة فتح كان لهم الموقع المميز، فقد أصبح لهم وجود مميز مشع تحت اسم "تنظيم فتح اللبناني" الذي كان قد تبلور على يد المناضل الفتحوي الكبير يحيى عاشور "حمدان" الذي كان من مؤسسي تنظيم فتح في النمسا وألمانيا ثم كان على رأس تنظيم فتح في لبنان، وقد استقطب تنظيم فتح في ظل قيادته عدداً من الكوادر المميزين من كبريات العائلات اللبنانية من كل الطوائف دون استثناء، ثم تطورت الفكرة أكثر، وأصبح تنظيم فتح اللبناني أكثر حضوراً، وكان بين أقطابه ذلك الشاب المتعدد التجليات، الواسع الثقافة، ذلق اللسان هاني فحص، رجل الدين الشيعي، المفكر العربي الإسلامي، الفدائي المقاتل، واحداً من فرسان الحلم والثورة، واحداً من العقول الملهمة الذي رأى بأن فلسطين بقضيتها التي تتوهج عدلاً، وبجرحها الذي ينزف ناراً، وبنضالها الذي يتفتح إبداعاً، هدية من الله لهذه الأمة، فإن نجحت هذه الأمة في اختبار فلسطين فإنها ستكون قد حجزت لنفسها مقعداً مميزاً في قطار المستقبل، وإلا، فإن الأمة سيكون أمامها زمن طويل من الضياع قبل أن تستقر على حقيقة تستند إليها.
حين نتذكر هاني فحص، فإننا نستعيد الثقة بأنفسنا بأننا نستطيع أن نكون معا، وأن هذه الأقنعة الطائفية ليست سوى من صنع الشيطان، وأن من العار علينا أن نقبل بأن يقوم أعدائنا الرئيسيون بخداعنا، وإعداد قوائم زائفة بمن نحب ومن نكره، ونكتشف بوعي يقيني أن جيوش الطوائف، وإمارات الطوائف رغم كل الادعاءات لم تخلق إلا لحماية إسرائيل.
كان العلامة والمفكر والفدائي هاني فحص يدرك بوعيه العميق أن فلسطين هي القضية الملهمة، وهي القاعدة المجمعة، وهي بوصلة الطريق، ودونها فإننا في هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها نمضي على غير هدى، ونتصايح ونتصارخ بلا معنى، وننحر رقاب بعضنا لإرضاء العدو، فهل يرضى العدو عنا حقاً؟ رحم الله هاني فحص، فقد كان صوتاً قوياً وعلامة بارزة في زمن الحلم والثورة.