في جمعة الأمس، في القاهرة، تعمدتُ أن تكون الصلاة في أحد المساجد أو المُصليات الصغرى، في الأزقة الشعبية، لفائدة أداء الفريضة، ومعها معاينة حال الوعظ الديني في أعماق المجتمع. فلا جديد في المساجد الكبرى ذات الثُريات. وقف الشاب الملتحي، يخطب في مسجده الصغير، وكان الموضوع عن فضل العِلم. عند الدعاء أفاض في الضراعة الى الله أن يفك أسر المسجد الأقصى، وأن "يمنحنا رب العالمين الشهادة عند أبوابه". ظننته معارضاً من "الإخوان". وعندما أقيمت الصلاة، قدم الشيخ على نفسه فتى يافعاً لم يكمل العشرين، لكي يؤم فينا. سرعان ما أدركت أنه يقدم حافظاً للقرآن، وظننت إنه من تلامذته في إطار "الجماعة". تأخرت في المسجد بعد انتهاء الصلاة، لأن بائع الطيور سيبدأ الآن في تجهيز ما طلبت. الباعة والعمال يغادرون بسرعة، لكنني بقيت. صافحت الخطيب وقلت له بلهجة تتوخى ورعاً "بارك الله فيك يا شيخ". بادرني بالسؤال:"من أين انت؟". فهو يعرف رواد مسجده الصغير، ورآني غريباً. قلت له من فلسطين. رحب بي في حبور. أخطأت فشكرته على دعائه للأقصى، فأجابني" "دعوت لفك أسر أولى القبلتين وثالث الحرمين". كأنه يقول ضمناً إن القدس لنا جميعاً، ولستم وحدكم من يتطلعون الى حريتها. لكنني لم أتأخر في رمي السؤال:"أظنك قريب من الإخوة في الجماعة". فقال بحزم:"كل المسلمين جماعة، ومن يحتكر الوصاية على الناس والدين فإنه منافق". انقلب الصوت والبث، الى إف إم بدل الموجة الطويلة. لكن بهجة الحوار تحققت بسماع صوت الإنسان المصري البسيط. هو العملة الجيدة التي تطرد العملة الرديئة من السوق. فالسخفاء السطحيون الناعقون، عبر بعض التلفزة، ليسوا في العمق. إنهم بعض بقع سوداء على السطح.
في الحي الشعبي، يتكاثر السوريون. بعضهم أعلن في محل صغير عن طعام شامي. كلمة الشام تجتذب الزبائن، والشوام محبوبون بين الناس في مصر. هكذا هي الحياة في بلد لا يطيق شعبه الخصومة والصراع. فالنكبة هي في تسييس المذاهب والأديان والمناطق وبشر الأوطان، وفي الأطر المتناسلة وفي اصطراع الاجتهادات. كلمة الله تعلو هنا، عند المسلم والمسيحي والملتزم دينياً والعلماني. ليس ثمة حاجة لمن يروَن انفسهم معنيين بتعليم الناس طُرقاً سياسية الى محبة الله، لا سيما وأن كل الطرق، باتت عبر واشنطن الذميمة!
بائع الطيور، ذَبَحَ الدجاجات بالبسملة المشددة، وأمعن في تنظيفها. تحادثنا حول مصدرها وأنواعها. ثمن الكيلو نصف سعر ثمنه في رام الله. لكن البط يباع بضعف ثمن الدجاج، أي بثلاثين جنيهاً للكيلو. آكلو البط، طُلاب دسمٍ وكوليسترول، وهؤلاء يستحقون الضرر ويستمتعون به!
في الحي الشعبي، يدور الحديث عن كل شىء. لم يغب عن حوار المقاهي حديث البحر والغرقى الفلسطينيين، الذين قضوا قبل الوصول الى ملاذات آمنة، أو الى سُبل عَيْش. كانت عبّارة غارقة، قد ضربت مسماراً في نعش مرحلة مبارك، لكن ظاهرة الغرق الفلسطيني تلو الآخر، والموت بعد الموت، في البر والبحر، ما زلت تبحث عن متهم حصري، بين مجموعة من المشتبه بضلوعهم. ربما تعرف المقاهي، بعد حين، سمسارة الموت "أم سليم" السورية، المقيمة في الاسكندرية مع أعوانها من أشباه الربابنة. فالوجدان الشعبي، غير المسكوت عن هواجسه في المقاهي، يأخذ وقتاً لكي يصبح موقفاً. لكنك في الحي الشعبي، تطمئن الى كون النوائب لا تمر مرور الكرام!