إن المواجهة الصعبة في قطاع غزة قد أفرزت مجموعة من الحقائق على الأرض، تلك التي لا يمكن القفز عنها ، فكما أثبتت الإرادة الفلسطينية مقدرتها على الفعل والانجاز، وسحب الأنظار دوما تجاه الحدث الفلسطيني فإن الإسرائيليين على مقدرتهم الإعلامية والدعائية الضخمة فوجئوا بالمواجهة الإعلامية كما فوجئوا بقوة المقاومة على الأرض، ثم كانت الصاعقة التي انقضت على رأس (نتياهو) بالمفاجأة الثالثة وهي وحدة الموقف الفلسطيني بتبني القيادة الفلسطينية لمطالب الفصائل المقاتلة من كتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس وأبو على مصطفى والقسام والمقاومة الوطنية، بل وأضافت عليها القيادة السياسية مجموعة أخرى من المطالب.

مما لا شك فيه أن شعبنا الفلسطيني في غزة قد دفع ثمنا باهظا من الأرواح البريئة التي دكتها آلة الحرب الصهيونية لأكثر من مرة، لتجعل من الحجر والبشر هشيما تذروه الرياح في واحدة من أشد معارك العدوان الهمجي النازي في التاريخ الحديث، حيث شبّه العديد من الناجين من مجازر غزة الحالية خاصة في حي الشجاعية ما  وحصل بها بمجزرة صبرا وشاتيلا التي نفّذها المقبور شارون .

وها هم سفاحو المجازر الجُدُد كل من "شارون" صبرا و"نتياهو" الشجاعية، و"بيرز" قانا يتعانقون في الحجيم على جثث أطفالنا وأحبابنا ليثبتوا للعالم أن أمة الإجرام واحدة، وأن لا اتجاهات حقيقية في السياسة الإسرائيلية اليوم إلا اتجاه اليمين واليمين المتطرف اللذان ينهلان من مورد التناخ (التوراة وملحقاتها) والتلمود بوصاياها العنصرية الإقصائية ، وعجينتها المشتركة مع صهيونية جابوتنسكي التي لا ترى حق العيش إلا (للمختارين) من أصحاب العرق النقي.

إن المفاجآت الثلاث التي واجهت نتنياهو تمثلت بعنف المواجهة المترابطة مع صبر وصمود أهل الضفة وغزة ، وتمثلت بخيبة الدعاية الإسرائيلية رغم أن بعض الفضائيات العربية المعروفة حاولت تسويق الرواية الإسرائيلية بصيغة إدعاء المهنية والموضوعية بقلم "أدرعي" و"غيسين" و"جندلمان"، فساوت بين القاتل والمقتول ، وكان للمفاجأة السياسية -وهي الثالثة كما ذكرنا – ممثلة بالتوافق الفلسطيني بعد مخاض وتشتت حيث أفرزت واقعا جديدا على الأرض يجب الانتباه له لكل من يحلل أو يقرأ أو يتبصر.

لا شك أن أمر غزة اليوم لم يعد مواجهة محلية خاصة بالقطاع أبدا بل وتعداه ليقفز عن المستوى الفلسطيني الوطني الى المستوى الإقليمي فتداخل صراع الإقليم مع حرب الصهاينة على فلسطين وغزة ، وهذا ليس بجديد فلطالما كانت فلسطين والقضية نهبا لمصالح دول الإقليم ، ولطالما باعت عدد من التنظيمات الفلسطينية ارادتها وقرارها ودماء شعبها لمصلحة دول الإقليم لتقفز على رقاب الضحايا فتظهر كالمتنصر أو البطل تماما كما هو دأب أحمد جبريل بالطعن المتواصل في جسد الثورة ، ما لا نأمله في حالتنا اليوم وان بدت بعض مظاهره على استحياء.

أن الحقيقة الأولى التي أفرزتها المواجهة الباسلة للعدو في غزة هي صلابة الحق الفلسطيني، كما قال الرئيس أبو مازن وهذه الصلابة هي ما تمثل – رغم المخرّصين والتابعين والكذابين – في عناق العمل الميداني مع العمل السياسي لتصبح مطالب المقاومة هي مطالب السياسي، ويزيد عليها.

أما الحقيقة الثانية فهي اهتزاز نظرية أن هدف "حماس" إثر انقلابها عام 2007 وما تلاه من أحداث هو السيطرة على قطاع غزة لإقامة دولة منفصلة تتغطى بالخلافة أو الاسلاموية، وتقيم قاعدة على نمط ما يفعل حزب الله في لبنان، إذ أننا نرى في حماس تيارات تتصارع منها ما يؤيد هذه النظرية فيمارس صنوف الكتم للصوت الآخر في غزة وعلى رأسها صوت كتائب الأقصى التي أثبتت وجودا متميزا في كل المعارك، ويتبجح على الفضائيات في الدعوة للفرقة والفتنة والاقتتال الداخلي، ونرى في المقابل الخط الذي نراه – أو نتمنى أن يكون – الغالب يسعى وإن اختلفت بعض المواقف للوصول لحدود وإن حدود دنيا من الاتفاق الوطني، تجلت بالتأكيد من السيد خالد مشعل على حكومة الوفاق والوحدة الوطنية وتعانق الإرادة السياسية والميدانية، رغم بعض الشوائب التي ما زالت تغلف المواقف تلك التي تدعو لاعتبار غزة امبراطورية مستقلة نتيجة نزق السلاح وظنون إمكانية تحقيق النصر دون الحفاظ على صمود شعبنا ووحدته.

اذن الحقيقة الثانية ببساطة تمثلت بنجاح نهج الوحدة الوطنية والوفاق في ظل معادلة جديدة تحدد على ماذا يمكن أن نختلف وكيف، وعلى ماذا يجب أن نتفق ، ما يجب أن يُدعّم بإحياء الإطار القيادي المشترك وصولا للتغيير في منظمة التحرير الفلسطينية.

والحقيقة الثالثة هي أن تقاطع المصالح الإقليمية بدا واضحا من بعض الدول، أو مجموعة دول تحاول استغلال الحدث (كما هو الحال في الاستغلال القائم للحدث في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا....) لتقول هاأنذا، فإذا نظرنا شرقا فإن من مصلحة ايران وخطها ألا يكون لأمريكا دور في استثمار حرب غزة دعما لأوراق هذه الدولة في المباحثات النووية ، وعليه يمكننا قراءة الموقف للسائرين في درب إيران وفق ذلك.

ومن مصلحة تركيا أن تظل هيمنتها الإمبراطورية السياسية الاقتصادية على المنطقة قائمة برداء الخلافة العثمانية المرتبطة بفكر التيار الجافي في الإخوان المسلمين اليوم والذي يستغل هذه الحرب ليشن حربه الشرسة ضد من اسقطوا نظام مرسي .

أما التيار العربي المركزي اليوم ممثلا بكتلة مصر والخليج فيقف -باستثناء قطر- بجزم ضد "الإسلام السياسي" ومنه تنظيم الإخوان المسلمين، فتتجه المواقف لتدعيم ذلك على كافة المحاور والجبهات ومنها في فلسطين.

الضحايا في هذه الحرب هم المظلومون المكلومون من الرجال والأمهات وهم ذوي العيون الزجاجية من الأطفال الناجين من المذابح الذين تحجرت الدموع في أعينهم، وتجمدت القسمات فيهم عند حد العبوس. ولا يقل لى أحد أنه يتضامن مع شعب غزة أوأطفالها (وما يشابهه في المحرقة العربية-العربية القائمة اليوم) فهو لا يعلم قطعا حجم الدمار والألم سواء المادي أو النفسي الذي ستخلفه هذه الحرب ، بغض النظر عن رايات النصر الخفاقة أو إعلام الاستسلام البيضاء ، وهذه الحقيقة الرابعة لربما تكون حقيقة غائبة أو مُغفَلة أو مستَغَلّة من هذا أو ذاك في ظل هدير المدافع وقصف الطائرات المترافق مع قصف العقول بالدعاية المضادة والشعارات الرنانة التي تخاطب القلوب.

الحقيقة الخامسة هي أن قدرة المقاومة على إثبات ذاتها لم تعد خافية ، وقدرة الشعب الفلسطيني على التواصل الثورة والصبر والصمود والثبات واجتراح المعجزات، والكفاح داخل "حماس" و"الجهاد" وفي أجيال حركة "فتح" الصاعدة أصبحت تشكل علامة خطر حمراء تضيء أمام تواصل المشروع الصهيوني الذي يتعمد إغفال حل الدولتين ما دعى عدد من قادة الكيان الإسرائيلي ومفكريه للاستجابة فورا لمطالب المقاومة والفلسطينيين، وإلا فالطوفان قادم (انظر الكاتب الإسرائيلي "بن درور" ومطالبته في يديعوت 23/7/2014 القبول بشروط المقاومة مقابل نزع سلاحها أمميا ، وانظر "يوفال ديسكين" قائد الشاباك السابق ومبادرته بنفس الاتجاه في يديعوت أحرونوت أيضا).

 إن حقائق الحرب هذه تخفي في ردائها سلسلة من التخوفات ، تبدأ من التخوف بأن يستوحش الكيان الصهيوني فلا يفهم الحقائق، وأن تأخذه غطرسة القوة للذهاب لأقصى مدى فيغرق في ارتكاب المجازر الى الحد الذي يحقق له الغَلَبة، وهذا ما يدعمه تيار واسع في الكيان الذي أعلن 77% منه موقفا ايجابيا من العدوان على غزة.

كما تبرز مخاوف انجرار فلسطين والقضية عامة لأن تخرج من يد الفلسطيني، وتقع بين أيدي اللاعبين الإقليميين ذوي المصالح والإطماع، ما حذرت منه مرارا حركة فتح والثورة الفلسطينية، عندما رفعت لواء القرار الوطني الفلسطيني المستقل، لا سيما أن حروب الدول العربية ضد بعضها البعض في المنطقة، وحروب "الجماعات" الخارجة من قبور التاريخ المظلمة عكست نفسها بقوة على غزة ولاقت هوسا في نفوس الكثيرين من فصائلنا بشكل مرعب.

وفي هذا الخضم لنا وقفة وتأمل وتبصر وإيمان، فهل نقول   أننا لا ننتصر أبدا بل ننهزم؟! رغم حجم الصبر والصمود والمقاومة والروح المعنوية ؟! نعم إن الإنسانية جمعاء -والنساء والأطفال والرجال والشيوخ الأبرياء المظلومين المكلومين المحزونين - تنهزم أمام دمعة طفل فقد والديه، لا يدري أين السبيل، وتنهزم أمام شهقة أم للتو خرجت من بين الخرائب تصيح أين ولدي، وأمام رعشة أب نظر شمالا ويمينا فلم يرى إلا الهدم والغربان، وأمام حُرقة أخت لم يبقى لها من الدنيا إلا أخ  مضرج بدمائه النازفة على الأرض لا تجد له مسعفا أو قبرا أو نائحة.

إن قسنا العدوان بأعداد الشهداء الذين يسقطون لنا، فالهزيمة في غالب الحروب حلّت بنا، وإن قسنا الهزيمة بمقدار الصبر والصمود ولهيب الثورة والإيمان وأمل النصر، فنحن دوما منتصرون، ولكننا دوما بحاجة للتأمل والتبصر وإعادة التفكير لعل الله يسعفنا بالفكر المستنير والعمل الذي يحمينا ويحقق لقضيتنا وعد الله.

لا يمكن أن ننسى اللاعب البعيد القريب وهو الولايات المتحدة الأمريكية وعبر "قاعدته" أو حاملة طائراته في الوطن العربي التي تلعب دورا سلبيا ضد محور الأمن القومي العربي، فتعيد تلميع الدور الامريكي دون شعور بالعار أو الخزي وإنما بأن تُلبِس الدور الأمريكي رداء الإنصاف باسم دعم المقاومة لمجرد المناكفة والإساءة للثوب العربي المصري في سياق التحالف الأمريكي مع "الإسلام السياسي" بشقيه المهادن والمتطرف.

رغم المخاوف والجراح ورغم مشاعر التراجع وانهزام البشرية أمام نقطة الدم خوفا من السيف، فإن حقائق الأرض بغالبها في مصلحتنا، فهل نستغلها ونجعلها مدخلا للحل النهائي للقضية أم نفلت الفرصة من بين أيدينا، كما هو الحال في أكثر من مرة؟!

بقلم/ بكر أبو بكر