لك المجد يا غزة، ذلك الشريط الضيق من الأرض، المخنوق بين الماء والصحراء، والذي ولد من رحم النكبة، المرسوم على هيئة علامة سؤال سرميدية، المزدحم بأهله قرابة مليونين، يمثلون في حصارهم كل فلسطين، فليس هناك موقع في فلسطين التاريخية من عكا إلى رأس النقب ومن النهر إلى البحر، إلا وفيه عائلة موجودة في غزة، هكذا خلق هذا النسيج الفريد، وهكذا استطاعت غزة بنوع من العناد الخارق والصبر الأسطوري أن تحافظ على اسمها الفلسطيني، وعنوانها الفلسطيني، ووعدها الفلسطيني حتى ولوكره الكافرون.
ما الذي فعلته غزة بإسرائيل حتى تستحق كل هذا الموت المعربد في الطرقات؟ كل الطائرات وأحدثها القادمة فوراً من مخازن السلاح الأميركية، وكل أنواع القذائف والقنابل وأحدثها التي تبتر الأذرع والسيقان وتفصل رؤوس الأطفال عن أجسادهم، والتي ينتظر الأميركيون نتائج استخدامها في لحمنا الحي حتى يعتمدوها في جيشهم، وكل أنواع الدبابات، والزوارق والمدمرات البحرية، وكل مكتشفات التكنولوجيا الحديثة من السلاح، ماذا فعلت غزة حتى تستحق كل هذا الموت، والحقد، وتراكم الكراهية، وانكشاف الإنحطاط الأخلاقي من أعدائها الصهاينة ومن يحالفهم ويساندهم ويشد على أيديهم صباح مساء، ويبرر لهم ما يفعلون.
إن غزة فلسطين طرحت على إسرائيل السؤال الأول، السؤال الوجودي، سؤال المصير، هل إسرائيل بعد أكثر من ست وستين سنة على صناعتها بيد الغرب الاستعماري، هل هي برسم البقاء أم برسم الفناء؟ هل هي تستحق أن تعيش في هذه المنطقة؟ هل هي مؤهلة حقاً لأن تستمر كدولة، أم أنها ترتد في غمضة عين لتعود مجرد عصابة أقذر الأشرار.
هل إسرائيل هي حقاً ما تدعيه، دولة ديمقراطية، دولة قوانين وتعايش وقبول أم أنها هي نفسها صانعة أول مذبحة في دير ياسين، إسرائيل الأرجون وإتسل وليحيى والهاجاناة، وعملاء الوكالة اليهودية الذين عبدو آلهة أعدائهم، وتحالفوا مع الجستابو النازي لتدبير مذابح لليهود في ألمانيا لكي يرحلوا قسراً إلى فلسطين، وتعاونوا مع رجال المخابرات البريطانية ليرتبوا المذابح لليهود في مصر والعراق واليمن ليدفعوهم قسراً إلى الرحيل إلى فلسطين، ليؤلفوا منهم، ومن المجلوبين من قبائل الفلاشا، ومن المهاجرين من الروس، شعباً ودولة لا تعبد إلا آلهة العدوان والخرافة والأسطورة البائدة.
هذا هو سؤال غزة، إنه السؤال الأول، وكانت إسرائيل تتوهم أنها ابتعدت عن هذا السؤال كثيراً، ولكنها حين نظرت خلفها اكتشفت أنها لم تبتعد كثيراً، وأن السؤال يلاحقها، إنه سؤال وجودي، إنه سؤال المصير، ورغم جدران السلاح بكل أنواع السلاح، وجدران الملاجئ، كل أنواع الملاجئ، وجدران الدعم الأميركي والغربي عموماً، كل أنواع الدعم الذي ليس له حدود، فإن إسرائيل يلاحقها كابوسها الغزاوي الفلسطيني، كابوس على هيئة سؤال، ماذا لوأن "جينات" غزة انتقلت إلى المنطقة، إلى العرب لكي يصبحوا عرباً فعليين وليس من العرب البائدة، وإلى المسلمين لكي يكونوا مسلمين حقاً وليسوا مجرد أمة افتراضية، ماذا لوأن "جينات" غزة انتشرت في الأرض، وتوسعت في المدى، وتحققت في قرارات وممارسات وتراكمات في الميدان.
يا له من سؤال مدو، سؤال مروع، سؤال يهد أركان الصهاينة الظالمين، الموت في غزة كبير، يعربد في الطرقات، يحول البيوت إلى ركام، والأجساد إلى أشلاء، ويحول التراب إلى غبار مسموم، ويحول الماء المالح إلى عطش، وأماكن الإيواء بما فيها تلك التي يرتفع فوقها عنوان الأمم المتحدة إلى مقابر جماعية، ولكن غزة فلسطين تواصل طرح الأسئلة، ومن خلال هذه الأسئلة ينفضح هذا الجنون الإسرائيلي، رائحة الدم في غزة تهيج شهوة الذئاب من الإسرائيليين، ورائحة الدم في غزة تفضح هذا النفاق الدولي الذي وصل إلى حد العار والفاجعة.
يا غزة، يا قلب فلسطين، وأنساب فلسطين العريقة، وإرادة فلسطين القوية، ها أنت تبعثين الحياة القوية في أحد عشر مليون فلسطيني في القدس وعموم الضفة والجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة وفي كل شتات فلسطيني قريب أوبعيد.
يا غزة، ها أنت تطرحين خبرتك المذهلة، بالقيامة من الموت، بالانفجار من الحصار، بالقدرة على الاشتباك لحظة بلحظة راهن فيها الأعداء أن الأرض العربية من حولك موات، والمدى الإسلامي من حولك غياب، وأن الضمير العالمي مهال عليه تراب أكثر ألف مرة من حطام بيوتك، ولكنك تنهضين وتشتبكين، وتزرعين الموت في مفاصل العدوالإسرائيلي المحتل لأنه يخاف أن يتحقق احتمال الواحد في المليون، أن تنتشر جيناتك في الأمة من حولك، وحينئذ ستغيرين وجه الأرض، وحينئذ سيعبد الله حقنا، وحينئذ سيلطم هؤلاء الإسرائيليون وجوههم لأنهم لم يكونوا صادقين في وعودهم وعهودهم ومفاوضاتهم، بل كانوا عبيد الأوهام، عبيداً لنموذج النازية التي يبكون منها في الليل حين تداهمهم الكوابيس لكنهم في الصباح يتحولون إلى عاشقين للنازية فيطبقون نموذجها الوحشي ضد لحم أطفالنا.
ثم إنك يا غزة لا تعرفين الانكسار، فاستمري في طرح الأسئلة، واستمري في ملاحقة القتلة، اقتليهم بكل سلاح ممكن، اقتليهم حتى بأشلاء الشهداء، واجعلي من دموع الأمهات الصارخات الثكالى ناراً تحرقهم، ولعنة الله عليهم إلى يوم الدين.